مقال

ثقافتان مستحيل أن تلتقيان

جريدة الأضواء

ثقافتان مستحيل أن تلتقيان

كتب / يوسف المقوسي

ثقافتان إثنتان. خطان متوازيان لا يلتقيان. ربما وجدتا في العائلة الواحدة أو الشخص الواحد، ليس فقط في حارات المدن والقرى. واحدة تقليدية دينية يعبر عنها رجل الدين. الأخرى احتمال حداثة أو سعي وراءها. انفصام ذاتي فردي ومجتمعي. واحدة لما لم يعد يلزم والأخرى نتوهم حدوثها. المثقف الحداثي صار احتمالاً. الأول خريج جامعة أو حوزة دينية. الثاني خريج جامعة للعلوم الحديثة. شيوع المزاج الديني جعل الأولى تطغى على الثانية حتى داخل الشخص الواحد. الانفصام الثقافي كاد أن يميل لجانب الحداثة في النصف الأول من القرن العشرين. انهزمت الحداثة أمام التقليد منذ الربع الأخير في القرن العشرين. تراجع البحث في قضايا التطوّر الاجتماعي والنمو الاقتصادي. صار مداره حول الدين وقضايا الخلاص في الآخرة. التقليد وجود حقيقي. الحداثة احتمال مكبوت. خسرنا في معركة الحداثة والتحديث. انهزمنا أمام العالم؛ والهزيمة في الأساس داخل أنفسنا. أمام ذاتنا، وفي فلسطين. ثورة عام 2011 العربية عبّرت عن سعي وراءتحول الذات العربي الفردية والمجتمعية الى الحداثة بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. تحوّل الأمر الى حروب أهلية لا تنتهي. حروب أهلية تستخدم العنف المسلّح أحياناً واحتلال الدين كل مجالات المجتمع. كاد الدين أن يكون جزءاً من المجتمع. أصبح كل المجتمع. أصبح مضمراً لدى الجميع شعار “الإسلام هو الحل”؛ الشعار الذي قال به حسن البنا والإمام الخميني. أصبح هو المزاج العام. علماء الدين يظهرونه. أساتذة الجامعات غير الدينية يضمرونه حتى دون أن يعلنوه. هزيمة على الأرض؛ خلاص في السماء. الآخرة أولى من الدنيا. الدين والدنيا منفصلان منذ القدم في الوعي الجماعي. انفصام دائم. لكن الأول يطغى على الثانية في حاضرنا البائس. بؤس مصدره فقر ثقافتنا الراهنة. ركود مترسّخ واحتمال ثورات أخرى في الوعي. حيوية الوعي لا يحركها إلا السؤال والشك. الركود يثبته الجواب. الأجوبة جاهزة في كتب التراث. تراث لم يعد يلزم إلا للبحث التاريخي. البحث المجدي والعلمي يقتضي الوقوف خارج التراث؛ أن تقف الذات خارج نفسها ولو مؤقتاً. خسر الرهان مثقفو الحداثة والتحديث. ليس الانقسام بين اعتدال وتطرّف تكفيري بل بين ديني يزعم أنه تقليدي وحداثة منبتة (أي منقطعة الجذور)، بين ثقافة دين يحتل كل المجتمع ويسيطر على وعيه، وثقافة حداثوية عادت احتمالاً. الثقافة الدينية يمثلها علماء الدين والحداثة الثقافية يمثلها الأساتذة الجامعيون وغيرهم ممن هم في الجهاز التعليمي والثقافي. وهم كلهم ينتمون الى طبقة واحدة من أصحاب العمامة ويتقاسمون إنتاج وعي المجتمع.

 

المثقف الحداثي عاد احتمالاً بعد أن كان التطوّر في غير اتجاه. أُغلق المجتمع في الربع الثالث من القرن العشرين وسادت ثقافة رجال الدين ودخل المثقفون المدنيون تحت لوائهم. أصبحت داعش وأخواتها من السابقات وربما اللاحقات ممكنة، بل الوحيدة الممكنة. الثقافة السائدة هي ما تمثله داعش، ومن قبلها جبهة النصرة، ومن قبلها القاعدة، ومن قبلها القطبية التي أفرخت الخمينية في إيران، ثم الانقلاب على الأتاتوركية في تركيا. كانت القطبية (سيد قطب: معالم الطريق) تأسيسية في كل ذلك. وكانت نتيجة حتمية لما بدأه الأخوان المسلمون “والتنظيم” العسكري في داخلهم.

واكب استبداد ديني؛ استبداد ثقافة دينية جديدة لما كان الاستبداد السياسي واقعاً فالاستبداد الديني أصبح حتمياً. ما عبر عنه هو شعار “الإسلام هو الحل” الذي طلع من مصر وتبنته الخمينية. مع تسلم السلطة الخمينية في إيران أصبح شعار “الإسلام هو الحل” ممكنا في اعتقاد الثقافة الإسلامية في كل المجتمعات الإسلامية. دحرت هذه الثقافة وعي الحداثية, داعش تمثل هذه المجتمعات. ليست المسألة إرهاباً تقوم به جماعات متطرّفة وحسب، بل ثقافة لا تمييز فيها بين الاعتدال والتطرّف. هي ثقافة “نحن وهم”. لا خيار للفرد، فهو إما يكون معنا أو ضدنا. معنا يكون الحل في متناول الجميع دون تفكير بل بتكليف شرعي. بانتصار “الأنا” على الواقع، وسيطرة الماضي على الحاضر والمستقبل، والانضواء تحت راية الشريعة؛ وهذه مؤداها الأمة لا الدولة. الدولة مؤقتة، كيان عابر. الأمة وجود ثابت. الناس وجود عابر ومؤقت. القضية هي ما يجب أن تكرّس لها حياة الناس. الحياة لا قيمة لها إلا بمقدار ما تخدم القضية. المعيار هو الوفاء للقضية، التي لا تعبّر عن حياة الناس ووجودهم، بل عما تطلبه السماء. القضية في السماء؛ هي من أجل الآخرة لا من أجل من على الأرض. التوجه للناس كي يفهموا ما تتطلبه السماء. وهي وكالة حصرية لأصحاب العمامة. الكون خلق من لا شيء في لحظة معينة تبعد عنا حوالي ستة آلاف سنة؛ ليس التطوّر عبر مئات آلاف السنين؛ لا تطوّر من شيء الى شيء، ومن جماد الى حياة. ازدواج نظرية خلق الإنسان تعبير عن ازدواجية الثقافة.

المشكلة ليست فقط في الدين السائد أن يحتل كل قطاعات المجتمع، ولم يعد يقتصر على كونه قطاعاً من أو في المجتمع. ليست المشكلة في ثنائية الدين الصحيح ضد ما يعتبر ليس إسلاماً صحيحاً، ولا في الإسلام المتطرّف ضد الإسلام المعتدل، ولا في علمانية فصل الدين عن الدولة. هي أيضاً في عدم ممارسة المجتمع للسياسة لأن السياسة لم تعد موجودة. سيطرة الدين على كامل المجتمع أفرغ مقولة “ما لله لله وما لقيصر لقيصر” من أي محتوى. كل شيء أصبح لله. ينوب عنه وكلاؤه أصحاب العمامة الذين يتبعهم غير أصحاب العمامة؛ حتى المثقفين المدعين الحداثة، حتى كادرات التدريس الجامعي وما هم أدنى في سلم التربية والتعليم. وليست المشكلة في معارضة الكفر والإيمان بل خضوع كل شيء للعقيدة الدينية. حتى الإيمان أصبح مرتهناً للعقيدة والطقوس. إذا سُئلتَ ما الفرق بين العقيدة والإيمان، يمكنك القول أن الإيمان هو صلة الفرد بالله، وهذه صلة مباشرة تنبع من الفرد، من ضميره وقلبه. العقيدة هي الطقوس التي يقتضيها الإيمان لتكون ممارستها برهاناً على الإيمان. سيطرة العقيدة والطقوس على الإيمان. هو الفرق بين الأون والكيف. الأون في القلب والعقل؛ الكيف في حركات الجسد والحلال والحرام. لا تقولوا آمنّا بل قولوا أسلمنا كما جاء في الكتاب العزيز. هي عقيدة يعتقد أصحابها أنها تصلح لكل شيء. هي في كل شيء. تستولي على كل شيء. تستحوذ على عقل المجتمع ووعي الأفراد. هي جسم بلا روح؛ وما يستتبع ذلك من إنكار للحداثة وعلومها، وللفرد وضميره، وللأخلاق وحميميتها. استعلاء على الوجود البشري، ومنافسةً لله. وصنعوه في تابوت نفوس متحجرة. نفوس خلت من الإيمان لأنها خلت من الشك تعتقد بأن الحق مصدر الحقيقة. هي تزعم أنها تمثّل الحق وتقبض على الحقيقة. حقيقة الواقع تصدر عن نفوسهم لا عن واقع الإنسان والطبيعة. إذا كانت النيوليبرالية تعتمد الحقيقة الافتراضية، وسيطرة ما “أنا” على الآخر، ليصبح الآخر وهماً والأنا أمرا بالسيطرة، وهماً بالسيطرة على الواقع الافتراضي، وسيطرة المال على الاقتصاد، والاكتناز على المال، والثروة على أصحابها، والمضاربات على التبادل، والربح على الكسب، واقتطاع العمل على العمل، وعبودية الذين يعملون باخضاعهم للذين لا يعملون، وتفوّق الأمر على الحوار، وأولوية التكليف الشرعي من خارج الذات على السلوك بمقتضى الضمير والقلب، وغياب الأمل بالمستقبل، وسيطرة الماضي الموهوم على الحاضر الواقع، وافتراض النصر مكان واقع الهزيمة، وقداسة الصمود دون السعي، وإنكار المستقبل لصالح الحقيقة الافتراضية، وإحلال أوهام العقيدة مكان واقعية الإيمان، وإلغاء السياسة لصالح التكليف.

ثقافتان متوازيتان في كل شخص. غلب فيها الأخروي على الدنيوي. انهزم مثقفو الدنيا والدنيوية. تغلبت الأخروية. انتصرت الآخرة على الدنيا، والسماء على الأرض. في الوعي السائد: حيّز السماء فاق حيّز الأرض. الثقافة الدينية الراهنة التي تجد غطاء لها فيما يتعلّق بالخلاص، تمكنت من المجتمع. احتلت كل الفضاء الاجتماعي؛ أخضعت ثقافة الأرض الإنسانوية والحرية والديمقراطية. أصبح المثقف الدنيوي مهمشاً لا يثق بعدة الشغل التي لديه. عملياً، وبأشكال متعددة، هو تبنّي ايديولوجيا ثقافة السماء وطقوسها. أصبحت الثقافة الحداثية ضعيفة هشة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، بعد أن كان زخمها قوياً حتى الربع الثالث من القرن العشرين.

الدين مطواع للعصور. يتطوّر بتطوّر التاريخ. يتوقف عن تلبية الحاجات الآنية والمستقبلية عندما يصبح هو كل المجتمع لا جزءاً منه.

 

عندما يحتل الدين كل المجتمع ويصبح الإنسان أداة لغاية ترسم له، يكون طبيعياً أو متوقعاً الثقافة التي يمثلها أهل العمامة، وتنهزم الثقافة التي يمثلها الحداثيون.

هُزمت الحداثة، فأصاب العجز مجتمعاتنا. نعاني الهزيمة نتيجة ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى