مقال

الدكروري يكتب عن الإمام الحريري ” جزء 1″

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الإمام الحريري ” جزء 1″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

الإمام الحريري هو العلامة الأديب اللغوي البارع أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحرامي أديب من أدباء البصرة، وهو من أكبر أدباء العرب وصاحب مقامات الحريري، وولد الإمام الحريري بالمشان، وهي من ضواحي مدينة البصرة سنة ربعمائة وست وأربعين من الهجرة، الموافق عام ألف وأربع وخمسين من الميلاد، وهي بلدة قريبة من البصرة كثيرة التمر والرطب والفواكه، تتصف بوخامة الهواء وملوحة الماء وكثرة المرض، ولما شب عن الطوق رحل إلى البصرة، وسكن في محلة بني حرام وهي قبيلة عربية كانت تسكن البصرة، وتأدب بها، واتصل علي بن فضال المجاشعي ، فقرأ عليه العربية، ودرس الفقه على أبي إسحاق الشيرازي ، كما سمع الحديث من عدد غير قليل من الحفاظ والمحدثين، وكان الحريري من ذوي الغنى واليسار إلى جانب علمه الواسع، وتمكنه من فنون العربية.

 

وكان له بقريته المشان ضيعة كبيرة مليئة بالنخل، وكان له بالبصرة منزل يقصده العلماء والأدباء وطالبو العلم، يقرءون عليه ويفيدون من علمه، وكان الحريري مفرطا في الذكاء، آية في الحفظ وسرعة البديهة، غاية في الفطنة والفهم، فما كاد يفرغ من تلقيه العلم حتى جذب الأنظار إليه، وتم تعيينه في ديوان الخلافة في منصب صاحب الخبر، وهي وظيفة تشبه هيئة الاستعلامات في عصرنا، ولا يُعرف على وجه اليقين متى تقلدها، لكنه ظل بها إلى أن توفي، وقيل أنه لم يبلغ كتاب من كتب الأدب في العربية ما بلغته مقامات الحريري من بُعد الصيت واستطارة الشهرة، ولم يكد الحريري ينتهي من إنشائها حتى أقبل الوراقون في بغداد على كتابتها، وتسابق العلماء على قراءتها عليه، وذكروا أنه قام بالتوقيع بخطه في عدة شهور من سنة خمسمائة وأربعة عشر من الهجرة، على سبعمائة نسخة، وبلغ من شهرتها في حياة الحريري أن أقبل من الأندلس.

 

فريق من علمائها لقراءة المقامات عليه، ثم عادوا إلى بلادهم حيث تلقاها عنهم العلماء والأدباء، وتناولوها رواية وحفظا ومدارسة وشرحا، ويحكي الحريري عن سبب إنشائه المقامات التي بدأ في كتابتها في سنة ربعمائة وخمس وتسعين من الهجرة، وانتهى منها عام خمسمائة وأربعة من الهجرة، فيقول إن أبا زيد السروجي كان من أهل البصرة، وكان شيخا شحاذا أديبا بليغا فصيحا، ورد البصرة، فوقف في مسجد بني حرام ، فسلم، ثم سأل، وكان المسجد غاصا بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته وحسن كلامه، وذكر أسر الروم ولده، فاجتمع عندي عشية جماعة، فحكيت ما شاهدت من ذلك السائل، وما سمعت من ظرفه، فحكى كل واحد عنه نحو ما حكيت، فأنشأت المقامة الحرامية، ثم بنيت عليها سائر المقامات التي تبلغ خمسين مقامة، وقد نسب الحريري رواية هذه المقامات إلى الحارث بن همام، فهو الذي يروي أخبارها، ويقول ابن خلكان إنه قصد بهذا الاسم نفسه.

 

ونظر في ذلك إلى قول النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم “كلكم حارث وكلكم همام” فالحارث الكاسب، والهمام كثير الاهتمام بأموره، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، وقول النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أيضا” أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة” وأما بطل هذه المقامات فهو أبو زيد السروجي، وهو متسول يعتمد على حسن الكلام وسحر البيان في جذب اهتمام الناس، واستلاب عواطفهم، واستمالة عقولهم ليمنحوه صدقاتهم، وتختلف الروايات في حقيقة أبي زيد السروجي، فمن قائل إنه اسم خيالي وضعه الحريري صاحب المقامات، واستوحاه من صورة الشحاذ الذي لقيه في مسجد بني حرام بالبصرة، في حين يذهب البعض أنه شخصية حقيقية، والأقرب إلى الصواب أن أبا زيد السروجي شخصية نسجها خيال الحريري، ليحوك من حولها حيل أديب متسول.

 

مثلما اتخذ بديع الزمان الهمذاني من أبي الفتح الإسكندري بطلا لمقاماته، وتبدأ المقامات بلقاء بين الحارث بن همام وأبي زيد السروجي في صنعاء، وهما في ريعان الشباب وربيع العمر، حيث لقي الحارث أبا زيد خطيبا واعظا في جمع من الناس، ثم تبعه فعرفه مخادعا كذابا، وعلى هذا اللقاء بنى الحريري المقامة الأولى، وأطلق عليها المقامة الصنعانية، ثم أخذ الحارث يجوب البلاد ويواصل الأسفار ليلقى أبا زيد في أماكن مختلفة، في ساحات القضاء، ومجالس الولاة، وأندية الأدباء، ثم يلتقيان في مسجد البصرة، وقد تقدم بهما العمر، وهدَّ جسدهما طول الزمن، فإذا أبو زيد يقف في حشد من الناس يعلن توبته، ويندم على ما قدم من ذنوب وآثام، ثم يعزم على العودة إلى بلده سروج وينصرف إلى العبادة والصلاة، أما الحارث بن همام فيتوقف عن السفر والترحال، ويجنح إلى الراحة، ويكون هذا هو آخر لقاء بينهما، وبه تنتهي المقامة الخمسون آخر المقامات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى