مقال

الدكروري يكتب عن سلطان العاشقين ابن الفارض ” جزء 2″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن سلطان العاشقين ابن الفارض ” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ويقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في شرح مقطع من التائية يقرر ابن الفارض فيها بلوغه مرتبة الكمال الصوفي الذي يستولون عليه بالقدرة على ملاحظة الفرق والجمع في وقت واحد فابن الفارض يزعم هنا أنه منذ القدم كان الله، ثم تلبس بصورة النفس، فأرسل بصفته وجودا متجردا رسولا إلى نفسه بصفته وجودا مقيدا بالتعين، فهو الرسول، والمرسل والمرسل إليه، كان كذلك حتى وهو في غاية الأزل، وعندما ولد ابن الفارض في القاهرة في مصر، نشأ تحت كنف والده العالم بالفرائض ونائب الحكم في القاهرة في عبادة وزهد وورع، ولما كبر وشب دفعه والده إلى مجالس العلم والعلماء والتصوف، فقام بدراسة علوم الدين واللغة وتعرف على أهم عقائد التصوف وطرقه، واشتغل كذلك بالفقه ورواية الأحاديث النبوية الشريفة فحبب ذلك إليه العزلة والخلوة والذهاب إلى جبل المقطم في القاهرة والمساجد الخالية المهجورة والمقابر التالفة الخربة.

 

إلا أن ذلك كله لم يقض في نفسه ما أحب أن يمارسه من رياضة روحية وكثرة العبادة والصوم، فسافر إلى الحجاز، وانقطع عن الناس في وادي بالقرب من مكة المكرمة وبقي فيه مدة خمس عشرة سنة يكثر من العبادة ومجاهدة نفسه بالصوم والتسبيح والذكر والتردد إلى المسجد الحرام، فظل يتعبد ويتردّد إلى المسجد الحرام إلى أن حصل ما أتى لأجله، فأشرق نور الله سبحانه وتعالى في نفسه، واتضح له جماله، ووصل إلى منزلة مقام الشهود للذات الإلهية، وهذا المقام هو الأعلى عند الصوفية، وغايتهم المُثلى نتيجة طريقتهم في العبادة ومجاهدة نفوسهم، وبعد أن بلغ غايته قرر أن يعود إلى القاهرة مسقط رأسه، فأقام بقاعة الخطابة في الجامع الأزهر يؤدي عبادته ويتنسك فيه حتى توفي، ومجمل القول أن ابن الفارض بلغ مراتب عُليا في التصوف لإمضائه معظم أوقاته منقطع الحواس عن العالم لا يحرك ساكنا ولا يتكلم، حتى أنه قد يبقى على حاله هذا أياما عديدة.

 

فإذا أفاق من عزلته هذه يشرع ويملي شعره، كأنه يقوم بنظمه في غياب وعيه عن العالم وفي شهود الحضرة الإلهية، ومما يذكر أنه نقلت عنه كرامات عجيبة، فاعتقد الناس بولايته وأصبح مقصد زيارة العام والخاص من الناس، فإذا خرج من مضجعه تكأكأ الناس حوله طلبا للدعاء والبركة منه، وعندما كان يحضر مجالس الذكر ينفعل معها انفعالا شديدا حتى يتدفق العرق من جسده، ومن أبرز ما عُرف من صفاته، أنه كان جميل الوجه وضّاء، وحسن الهيئة والملبس، وكان رقيقا بطبعه وجوادا فصيحا، يحب الناس صحبته والتعامل معه ويحمدونه، وقد ذهب ابن الفارض في تصوّفه إلى مقولة الاتحاد، معتقدا بذلك أن مظاهر الوجود جميعها متساوية في شرفها وقيمتها، لأنها تمثل جوانبا من الألوهية التي تنبثق من جميع الكون وتنبثق منها جميع الأشياء، كما تتحد فيها المخلوقات ويتجلى نور الألوهية في جميع المشاهد، ولذلك اختلف العقائديون في أمر ابن الفارض.

 

فمنهم من رفعه لمرحلة القطبية العالية ومنهم من نزل فيه إلى الإلحاد والكفر والزندقة، وقد تميّز شعر ابن الفارض بنزعته الصوفية، ولولا هذا التصوف الذي غلب شعره لانطمس ذكره منذ زمن طويل، وما يكاد الشعر الذي أنتجه ابن الفارض يخرج عن العديد من الأغراض الشعرية كالصبابة والحنين والخمريات، والسر الذي جعل الناس يقبلون على شعره هو المعاني الرمزية عنده ووزنها، ولولا ذلك لانصرف الناس عن شعره، فقد رأوا عناية ابن الفارض بوزن المعاني له فاتحة جديدة في الشعر، بعد أن ظل الشعراء أزمانا طويلة يحرصون كل الحرص على وزن الألفاظ قبل كل شيء، ومما لا شك فيه أن ابن الفارض من ناحية عنايته بالمعاني كان فحلا من فحول الشعر، لأنه جمع أيضا بين الحقيقة والخيال، فكانت الحقيقة عنده هي الصورة الروحية، أما خياله فكان الصورة الحسية التي رمز من خلالها إلى المعنويات، وقد تراوح شعر ابن الفارض.

 

بين الفطرة والتكلف، حيث غلب التكلف على معظم الشعراء في عصره، فجميع شعره الذي وسم بذاك الطابع لا يمكن الشك فيه كله، وإنما يغلب الشك على شعره الذي يطغى عليه الضعف، كما كان ابن الفارض مفتونا بشكل لافت بالفنون والمحسنات البديعية من تورية وجناس وطباق وغيرها، واستخدم الغريب في شعره، كأن جعل قافية إحدى قصائده تنتهي بالذال فكان ذلك تكلفا واضحا لأن القافية الذالية صعبة للغاية ولا يقبل عليها الشعراء إلا المتكلفين منهم، فالذي يقوم بمراجعة القوافي في الشعر العربي يجد الشعراء لا يتخذون الذال قافية لهم إلا في بعض الأبيات والمقطوعات من الشعر، وفي النادر القليل منه، وابن الفارض أراد بذلك أن يُعرّف معاصريه أنه يمتلك ناصية هذه القافية الشموس، مع أن تخيره لهذه القافية الوعرة صرفت روحه عن الأجواء الشعرية وشغلته عن اختيار المعاني والاتجاه للبحث عن الألفاظ المناسبة التي تتفق مع القافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى