مقال

الدكروري يكتب عن أخلاق أصحاب النفوس النبيلة ” جزء 5″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن أخلاق أصحاب النفوس النبيلة ” جزء 5″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وإن أحكام الشريعة جاءت بمراعاة الخواطر وجبرها، وتطييب النفوس عند كسرها، فشرعت الدية في جبر الخطأ جبرا لنفوس أهل المجني عليه، وتطييبا لخواطرهم، واستحبت التعزية لأهل الميت، لتسليتهم ومواساتهم، وتخفيف آلامهم، ومن حكم زكاة الفطر جبر قلوب الفقراء، ليفرحوا بالعيد كما يفرح به الأغنياء، فمراعاة المشاعر وجبر الخواطر جزء من شريعة الإسلام، وعبادة نتقرب بها إلى الرحمن، فصاحب النفس العظيمة، والقلب الرحيم، رؤوف بإخوانه، رفيق بهم، يجتهد لهم في النصح، ويحب لهم الخير كما يحبه لنفسه، ولا يحمل في صدره غلا لهم، ويتجاوز عن هفواتهم، ويلتمس الأعذار لأخطائهم، ويجبر خواطرهم، ويطيب نفوسهم، وأما صاحب اللفظ الجافي، والقلب القاسي فقد مضت سنة الله تعالى أن ينفر الناس منه، فلا يُقبل منه توجيه ولا دعوة، ولا تسمع منه نصيحة، ولا يرتاح له جليس، ولا يأنس به ونيس.

 

فقال الله تعالى فى سورة آل عمران ” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك” وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال “بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مه مه يعني اكفف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا تزرموه، دعوه” فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له “إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة وقراءة القرآن” قال فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه” رواه مسلم وزاد في صحيح البخاري، أن ذلك الأعرابي قال وهو في الصلاة “اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا” فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال له “لقد حجّرت واسعا” يريد رحمة الله، فيحتاج الناس دائما إلى كلمة حانية.

 

ومواساة كريمة، وذلك لكثرة حوادث الدنيا، وهؤلاء المنكسرين من الفقراء، والأرامل، والأيتام، تطييب خاطرهم، وجبر مصابهم، والإحسان إليهم بالكلمة الطيبة، وتقديم المال، وكذلك زكاة الجاه، والسعي في قضاء الحاجات، إنه خطب عظيم، وأمر جسيم، وباب للأجر كبير، كان لأبي بزرة جفنة أي قصعة، من ثريد غدوة، وجفنة عشية، لمن؟ للأرامل، واليتامى، والمساكين، وكان صاحب المغرب المنصور يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصبي بدينار، وثوب، ورغيف، ورمانة، والقاضي محمد بن علي المروزي، عُرف بالخياط لأنه كان يخيط بالليل للأيتام والمساكين، ويعدها صدقة، فإن أصحاب المصاب يحتاجون إلى تخفيف المعاناة بالكلمة الطيبة، بالفعل الحسن، وحينما صُلب عبد الله بن الزبير قيل لابن عمر إن أسماء في ناحية المسجد، وهى أمه، والحجاج مثل بالجثة، فما كان منه عندما سمع ذلك إلا أن ذهب إليها مسرعا، ويطيب نفسها على ابنها.

 

فيقول لها إن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله، فاتقي الله واصبري، وهكذا عروة بن الزبير رجع من سفر، وقد مات ولده بالعين، وقطعت رجله بالغرغرينا، وقال لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، فسمع إبراهيم محمد بن طلحة بما حصل لعروة بن الزبير، فذهب إليه يواسيه، فقال والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أرب في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضاءك، وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض إن شاء الله، وقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء، من علمك ورأيك، والله ولي ثوابك والضمين بحسابك، وأيضا هذا ابن لهيعة قاضي مصر حين احترقت مكتبته العظيمة، واحترقت داره، بعث إليه الليث بن سعد من الغد بألف دينار، الدينار أربعة جرامات وربع من الذهب، أي أربعة آلاف ومائتين وخمسين جراما من الذهب، فإنه تشتد الحاجة إلى المواساة لأن أصحاب القلوب المنكسرة كثيرون، نظرا لشدة الظلم الاجتماعي في هذا الزمان.

 

فهذه معلقة لا هي زوجة ولا هي مطلقة، وهذه أرملة، وذاك مسكين، وهذا يتيم، والآخر عليه ديون وغم وهم، وهذا لا يجد جامعة، وهذا لا يجد وظيفة، وهذا لا يجد زوجة، أو لا يجد زواجا، المواساة تطييب الخاطر بكلمة ذكر، أو دعاء، أة موعظة، أو مال، أو مساعدة، أو جاه، أو قضاء حاجة، والكلمة الطيبة صدقة، وقال ابن القيم، جئت يوما مبشرا لابن تيمية بأكبر أعدائه، وأشدهم عداوة له وأذى، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، أهل الميت فعزاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسُروا به ودعوا له، أصحاب الأخلاق العالية يواسون حتى أهل عدوهم الذي كاد لهم وحسدهم وبغى عليهم وغلبهم، وقال أحمد بن عبد الحميد الحارثي ما رأيت أحسن خلقا من الحسين اللؤلؤي، كان يكسو ممالكيه كما يكسو نفسه، فالخادم هذا جاء من بعيد، في نفسه انكسار من الغربة.

 

فلا أقل من أن يطيّب خاطره بشيء يشعره بأن من حوله له أهل، وتطييب الخواطر له أثر كبير على النفوس، يمسح المعاناة، ويصبّر، ويقوي القلب في مواجهة الشدائد، ويمنع من الانهيارات النفسية، والسكتات، والجلطات، والناس إذا ورد عليهم الوارد القوي وقلوبهم فيها ضعف ينهارون، وقد يموتون، وإن عكس تطييب الخاطر تماما هو التشفي، فترى بعض أصحاب النفوس المريضة يفرح برسوب أولاد الجار، أو تطاول الأبناء على أبيهم، أو مصيبة أحد زملائه في العمل، تفرح الضرة لما أصاب ضرتها، أو الموظفة لما أصاب زميلتها في العمل من الطلاق، كيد، وحسد يدفع للتشفي، هذه من صفات المنافقين، فقال الله تعالى فى سورة آل عمران ” إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى