مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خفيف ” جزء 2″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خفيف ” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ويقول ابن خفيف وبقيت أربعين شهرا أفطر كل ليلة على كف باقلاء، فافتصدت فخرج شبه ماء اللحم، فغشي علي فتحير الفصاد، وقال ما رأيت جسدا بلا دم إلا هذا، وقال ابن باكويه سمعت أبا أحمد الكبير، سمعت ابن خفيف يقول نهبت في البادية وجعت حتى سقطت لي ثمانية أسنان وانتثر شعري ثم وقعت إلى فيد وأقمت بها حتى تماثلت، وحججت ثم مضيت إلى بيت المقدس ودخلت الشام فنمت إلى جانب دكان صباغ وبات معي في المسجد رجل به قيام فكان يخرج ويدخل فلما أصبحنا صاح الناس وقالوا نقب دكان الصباغ وسرقت فدخلوا المسجد ورأونا، فقال المبطون لا أدري غير أن هذا كان طول الليل يدخل ويخرج وما خرجت إلا مرة تطهرت، فجروني وضربوني وقالوا تكلم فاعتقدت التسليم فاغتاظوا من سكوتي فحملوني إلى دكان الصباغ وكان أثر رجل اللص في الرماد، فقالوا ضع رجلك فيه، فكان على قدر رجلي، فزادهم غيظا.

 

وجاء الأمير ونصبت القدر وفيها الزيت يغلي وأحضرت السكين ومن يقطع، فرجعت إلى نفسي وإذا هي ساكنة فقلت إن أرادوا قطع يدي سألتهم أن يعفوا عن يميني لأكتب بها وبقي الأمير يهددني ويصول، فنظرت إليه فعرفته، كان مملوكا لأبي، فكلمني بالعربية وكلمته بالفارسية، فنظر إلي وقال أبو الحسين وبها كنت أكنى في صباي فضحكت فأخذ يلطم برأسه ووجهه واشتغل الناس به، فإذا بضجة وأن اللصوص قد أخذوا، فذهبت والناس ورائي وأنا ملطخ بالدماء، جائع لي أيام لم آكل فرأتني عجوز فقيرة، فقالت ادخل فدخلت ولم يرني الناس وغسلت وجهي ويدي فإذا الأمير قد أقبل يطلبني فدخل ومعه جماعة وجر من منطقته سكينا، وحلف بالله إن أمسكني أحد لأقتلن نفسي وضرب بيده رأسه ووجهه مائة صفعة حتى منعته أنا ثم اعتذر وجهد بي أن أقبل شيئا فأبيت وهربت ليومي فحدثت بعض المشايخ فقال هذا عقوبة انفرادك، فما دخلت بلدا فيه فقراء إلا قصدتهم.

 

وقال ابن باكويه سمعت ابن خفيف وقد سأله قاسم الإصطخري عن الأشعري؟ فقال كنت مرة بالبصرة جالسا مع عمرو بن علويه على ساجة في سفينة نتذاكر في شيء، فإذا بأبي الحسن الأشعري قد عبر وسلم علينا وجلس فقال عبرت عليكم أمس في الجامع فرأيتكم تتكلمون في شيء عرفت الألفاظ ولم أعرف المغزى، فأحب أن تعيدوها علي، قلت وفي أي شيء كنا ؟ قال في سؤال إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى وسؤال موسى عليه السلام رب أرني أنظر إليك فقلت نعم، قلنا إن سؤال إبراهيم هو سؤال موسى إلا أن سؤال إبراهيم سؤال متمكن وسؤال موسى سؤال صاحب غلبة وهيجان، فكان تصريحا وسؤال إبراهيم كان تعريضا وذلك أنه قال أرني كيف تحيي الموتى فأراه كيفية المحيى ولم يره كيفية الإحياء، لأن الإحياء صفته تعالى والمحيى قدرته، فأجابه إشارة كما سأله إشارة إلا أنه قال في الآخر “واعلم أن الله عزيز” فالعزيز هو المنيع.

 

فقال أبو الحسن هذا كلام صحيح ثم إني مشيت مع أبي الحسن وسمعت مناظرته وتعجبت من حسن مناظرته حين أجابهم، وقال أبو العباس الفسوي صنف شيخنا ابن خفيف من الكتب ما لم يصنفه أحد وانتفع به جماعة صاروا أئمة يقتدى بهم وعمر حتى عم نفعه البلدان، وقال أبو الفتح عبد الرحيم خادم ابن خفيف سمعت الشيخ يقول سألنا يوما أبو العباس ابن سريج بشيراز ونحن نحضر مجلسه للفقه فقال أمحبة الله فرض أو لا ؟ فقلنا فرض قال ما الدليل ؟ فما فينا من أجاب بشيء، فسألناه، فقال قوله تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم إلى قوله أحب إليكم من الله ورسوله الآية قال فتوعدهم الله على تفضيل محبتهم لغيره على محبته والوعيد لا يقع إلا على فرض لازم، وقال ابن باكويه سمعت ابن خفيف يقول كنت في بدايتي ربما أقرأ في ركعة واحدة عشرة آلاف قل هو الله أحد وربما كنت أقرأ في ركعة القرآن كله، وروي عن ابن خفيف أنه كان به وجع الخاصرة.

 

فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل، فقيل له لو خففت على نفسك قال إذا سمعتم حي على الصلاة ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة، وقال ابن باكويه سمعت ابن خفيف يقول ما وجبت علي زكاة الفطر أربعين سنة، وقال ابن باكويه نظر أبو عبد الله بن خفيف يوما إلى ابن مكتوم وجماعة يكتبون شيئا، فقال ما هذا ؟ قالوا نكتب كذا وكذا قال اشتغلوا بتعلم شيء ولا يغرنكم كلام الصوفية فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مرقعي والورق في حجزة سراويلي وأذهب في الخفية إلى أهل العلم، فإذا علموا بي خاصموني ، وقالوا لا يفلح ، ثم احتاجوا إلي، قلت قد كان هذا الشيخ قد جمع بين العلم والعمل وعلو السند والتمسك بالسنن ومتع بطول العمر في الطاعة يقال إنه عاش مائة سنة وأربع سنين وانتقل إلى الله تعالى في ليلة الثالث من شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة والأصح أنه عاش خمسا وتسعين سنة.

 

وازدحم الخلق على سريره وكان أمرا عجيبا وقيل إنهم صلوا عليه نحوا من مائة مرة، وهكذا عاش أبو عبد الله محمد بن خفيف بن إسفكشاذ الضبي الفارسي الشيرازي شيخ إقليم فارس ورأس الصوفية في زمانه، وقد نقل ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن محمد بن حسين السلمي أنه هو اليوم شيخ المشايخ وتاريخ الزمان، لم يبقي للقوم أقدم منه سنا ولا أتم حالا ووقتا، وهو من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر متمسكا بعلوم الشريعة من الكتاب والسنة وهو فقيه على مذهب الشافعي، وروى ابن باكويه أن ابن خفيف نظر يوما إلى ابن مكتوم وجماعة يكتبون شيئا فقال ما هذا؟ قالوا نكتب كذا وكذا، قال اشتغلوا بتعلم شىء ولا يغرنكم كلام الصوفية، فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مرقعي والورق في حجر سراويلي وأذهب في الخفية إلى أهل العلم، فإذا علموا بي خاصموني وقالوا لا يفلح، ثم احتاجوا إلي، ومن ذلك قول الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء.

 

قد كان الشيخ قد جمع بين العلم والعمل وعلو السند والتمسك بالسنن، وتمتع بطول العمر في الطاعة، ومن أجمل ما قيل فيه ما ذكره التاج السبكي في طبقاته من قوله الشيخ أبو عبد الله بن خفيف شيخ المشايخ وذو القدم الراسخ في العلم والدين، كان سيدا جليلا وإماما حفيلا، يستمطر الغيث بدعائه، ويؤدب المصر بكلامه، من أعلم المشايخ بعلوم الظاهر وممن اتفقوا على عظيم تمسكه بالكتاب والسنة، وكانت له أسفار وبدايات، وأحوال عاليات ورياضات، وصحب، وتوفي في ليلة الثالث من شهر رمضان سنة ثلاثمائة وواحد وسبعين من الهجرة، عن عمر ناهز الخمس وتسعون سنة، وقيل إنهم صلوا عليه نحوا من مائة مرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى