مقال

الدكروري يكتب عن اجتمعت فيها أمهات العبادات 

الدكروري يكتب عن اجتمعت فيها أمهات العبادات

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

إن المعاصى تنقضى لذتها، ويبقى إثمها فالبطل ليس الذى يفرح أولا، بل الذى يفرح آخرا، فليست البطولة أن تضحك أولا، وقد قيل من ضحك أولا ضحك قليلا، ومن ضحك آخرا ضحك كثيرا، كما قال تعالى فى سورة المطففين” فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون” فإن بطولتك أن تضحك آخرا لا أن تضحك أولا، فإن الطفل حينما يولد كل من حوله يضحك، وهو يبكى وحده، أما إذا وافته المنية كل من حوله يبكى، فإذا كان بطلا ومؤمنا وملتزما ومستقيما ومحسنا ضحك وحده، فيقول تعالى كما جاء فى سورة يس “قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومى يعلمون” وإن هذه الدنيا التي نعيشها لن نخلد فيها، وهي لن تبقى إلى الأبد، فلها نهاية كما كان لها بداية، ونحن نعلم أنه في كل يوم يموت خلق كثير ويدفنون، ولا بد أن نكون يوما من الأيام منهم، طال ذلك أم قصر، والدنيا بأفراحها وأتراحها، ومسراتها وأحزانها، ويسرها وعسرها ينساها الناس بمفارقتها.

 

بل إن الواحد يصيبه عسر شديد، ومصيبة كبيرة، ثم مع مرور الأيام يزول عسره، وينسى مصيبته، ويذهب همه وغمه، وكذلك الإنسان تصيبه سراء فيفرح بها فرحا شديدا، ومع الأيام ينساها ويزول فرحه، وهكذا ما يلحق أهل الإيمان والتقوى من مشقة حبس النفس على الطاعات، وكفها عن الشهوات فإنهم ينسون ذلك بمجرد انتهاء وقته، وذهاب مشقته فالصائم الذي جاع وعطش، ينسى معاناته مع الجوع والعطش بمجرد فطره، والحاج الذي لحقه من المشقة والزحام وطول الانتظار ما لحقه، ينسى ذلك بمجرد إتمام حجه، وانقضاء نسكه، وأهل الشهوات المحرمة ينسون لذة شهواتهم ومتعتها، بمجرد مفارقتها، وتبقى السيئات في صحائفهم، والأوزار تثقلهم، والهموم والأحزان تملأ قلوبهم، وهذا من عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، فحري بالمسلم أن يعتبر بذلك، وأن يعمر وقته بطاعة الله تعالى لعلمه أن ما يلحقه من مشقة العبادة يزول ويبقى له أجرها.

 

يتنعم به خالدا مخلدا في دار النعيم، وأن يجانب المحرمات ليقينه أن لذتها تزول بزوالها، ويبقى وزرها عليه، وأن يستفيد من الأزمان الفاضلة، والأوقات المباركة التي اختصها الله تعالى بشعائره العظيمة، فيعظمها كما عظمها الرب تبارك وتعالى ويخصها بكثرة النوافل والقربات، وإن الخسران كل الخسران أن يصرفها العبد في اللهو والغفلة، والتمتع بما حرم الله تعالى عليه، ولربما كانت هذه العشر آخر موسم مبارك يدركه العبد في حياته، فلعل الموت يبغته في أي لحظة، ولقد اختص الله تعالى بعض الأزمنة بعبادات فضلت بها على غيرها من الزمان، كما اختص ثلث الليل الآخر دون سائر الليل والنهار، بتجليه سبحانه وتعالى للمستغفرين من عباده والسائلين والداعين، واختص يوم الجمعة بهذه الصلاة العظيمة، وبساعة الإجابة فيها، واختص رمضان بوجوب صيامه، ومشروعية الجماعة في قيامه، واختصت عشر ذي الحجة باجتماع أمهات العبادات فيها.

 

فكان العمل الصالح فيها أفضل منه في غيرها فالصلاة، والدعاء، والصدقة، والجهاد، وقراءة القرآن، وذكر الله تعالى وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيرها من القربات هي في عشر ذي الحجة أفضل منها في غيرها، فإن هذه العشر المباركات التي نبتدئها بعد أيام هي أفضل أيام السنة، والعمل الصالح فيها أيا كان نوعه أفضل منه في غيرها، وهي تقع في آخر شهر من السنة، فكأنها تعويض للمفرطين في عامهم ليتداركوا أنفسهم، ويعوضوا فيها ما فاتهم، ويدركوا بها منزلة من سبقهم، ومن فضل الله تعالى أنها كانت في آخر العام فإن العبد يتذكر بنهاية سنته نهاية عمره، ويندم على ما فرط في أيامه الخالية، ويعقد العزم على استثمار ما بقي من حياته، فإذا هو يستقبل هذه العشر المباركة ليفي بوعده لربه، ويصدق مع نفسه، وإن الله تعالى حين جعل هذه العشر المباركات أفضل أيام السنة، فإنه سبحانه اختصها بخصائص ليست في غيرها.

 

وجعلها زمنا لعبادات لا تكون في سواها، فهي زمن أداء ركن الإسلام الخامس، فأول أيام الحج فيها وهو يوم التروية، وفيها ركنه الأعظم، وهو الوقوف بعرفة، ويتوّج خاتمتها وهو يوم النحر بأكثر أعمال الحج، وهي الرمي، والنحر، والحلق، والحل من الإحرام، والطواف بالبيت، والسّعي بين الصفا والمروة، فإنها اختصت بهذه الأيام الثلاثة العظيمة، وفيها مناسك الحج وشعائره الكبيرة، ففي اليوم الثامن يبدأ الحجاج مناسكهم، وفي اليوم التاسع يقفون بعرفة، وهو من أعظم الأيام وأفضلها، ويعتق الله تعالى فيه من النار ما لا يعتق في غيره من سائر الأيام، وهو اليوم الذي نزلت فيه آية الإخبار بكمال الدين، وتمام النعمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، فكان الإخبار عن كمال دين الإسلام، وتمام نعمة الله تعالى به علينا، ورضاه بالإسلام لنا دينا في اليوم التاسع من هذه العشر المباركة، فاختصت بهذا الفضل العظيم، واختصت العشر بيوم النحر.

 

وهو العيد الأكبر، وهو أفضل من عيد الفطر لاختصاصه بكثير من الشعائر والعبادات، وفيه تراق الدماء تعظيما لله تعالى ولا تذبح الضحايا والهدايا قبله فكان التنسك بالدماء لله تعالى في خاتمة هذه العشر المباركة، وكان آخر يوم منها وهو اليوم العاشر عيدا كبيرا للمسلمين، يذكرون الله تعالى فيه على ما هداهم، ويشكرونه على ما أعطاهم، وإن لفريضة الحج فضائل كثيرة، منها أنه يهدم ما كان قبله كما في سؤال عمرو بن العاص رضي الله عنه، للنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبايعه، وأن من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه” الرفث هي كلمة جامعة لما يريد الرجل من المرأة، والفسوق هى المعاصي، وقال ابن حجر رحمه الله وظاهر الحديث غفران الصغائر، والكبائر، والشبهات، وقال صلى الله عليه وسلم “والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة” والحج المبرور هو أن يرجع زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة.

 

كما قال ذلك الحسن البصري رحمه الله، وإن من صفة الحج والعمرة، وهو أن يُحرم الحاج من الميقات، ثم يلبّي حتى يصل إلى البيت الحرام، ثم يبدأ بالطواف من الحجر الأسود، ويسن في هذا الطواف وهو أول طواف يأتي به القادم شيئان الاضطباع في جميع الأشواط، والرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، فإن أقيمت الصلاة أثناء الطواف، بدأ بعدها من موضعه الذي وقف فيه، على الأظهر من قولي العلماء، ثم يسوي رداءه بعد الفراغ من الطواف، ويصلي ركعتين خلف المقام، ويشرب من ماء زمزم إن تيسر له، ويسعى بين الصفا والمروة، وينبغي للنساء عدم مزاحمة الرجال بتقبيل الحجر، أو الرمي، أو الطواف، فيحلق إلا إذا كان متمتعا فإنه يقصّر لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بذلك، وحتى من أراد الأضحية يقصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى