مقال

الحل في ثورة الجياع

جريدة الاضواء

الحل في ثورة الجياع
كتب / يوسف المقوسي

لأن الفلسطيني، بوصفه واحداً من العرب، لا يحب أن يعترف بالهزيمة، فهو مدمن على التهرب من تحمل مسؤولياته ومن الإقرار بالخطأ أو بالذنب أو بالتقصير، ولو عن غير قصد!
دائماً هو ضحية، والسبب غيره،
ودائماً يجد من يرمي عليه عبىء المسؤولية الثقيل،
فهو، إذا ما حانت لحظة المحاسبة، يتحول في الغالب الأعم إلى قدري، ويستحضر إيمانه المنسي ليبرر له أن ينسب ما وقع له أو ما هو فيه إلى “مشيئة الله”.
“هذا هو المكتوب!! هذه إرادة الله، ولا راد لإرادته هيك الله بدو هذا مقدر علينا، ولا ينفع حذر مع قدر هذا هو نصيبنا والإنسان لا يأخذ إلا نصيبه.. وقبل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا الخ”.
أما في الشأن السياسي فهو، بشكل عام، محازب متعصب لوجهة نظر “جماعته”، سواء أكانت هذه الجماعة تنظيماً أم مذهب أم فئة أم جهة وصولاً إلى العائلة الكريمة وتفرعاتها،
فإذا ما أحرج أو فضل الحياد هرب بأن رمى المسؤولية على الجميع ونسي نفسه: “كلهم مثل بعضهم، الكل من العجينة ذاتها، إنهم ينهبوننا. هم يضاربون بالدولار ونحن لا نجد رغيف الخبز. كل الزعماء أولاد حرام، أثروا على حساب الشعب، على حسابنا نحن الفقراء، إنهم لا يحسون بهمومنا، ولا يهتمون بمصيرنا. هم دبروا حالهم وجلسوا على الكراسي وتركونا نموت في ذل الحاجة”.
… ويتصل المونولوغ إلى ما لا نهاية، إذا ما استمر التعميم وغابت اسماء القيادات الفذة، أما إذا ذكر اسم أو أكثر فإن المتشاكين ينقسمون فوراً أطرافاً متصارعة كل يبرئ “صاحبه” أي قائده أو زعيمه تاركاً الإدانة تطارد زعيم الآخر، أو زعماء الآخرين باعتبارهم سبب البلوى ومصدر الداء ومعطلي الحل!
أما إذا حضرت التنظيمات واستنفرت غرائز المتناقشين فنكون أمام أحد احتمالين: أما أن تتفجر الحرب الأهلية في الجلسة ذاتها، أو يفضل الجميع لدواعي اللياقة أو المجاملة أو ركاكة الحجة أو ضعف الأدلة أو الضجر من هذه “الشريعة” أن يعودوا إلى الاحتماء بالتعميم والتجهيل… وهكذا يصبح اسم الإنقلاب بالانقسام، بكل أسبابه ونتائجه، “الحوادث”، وينقسم التاريخ إلى “ما قبل الحوادث” و”ما بعد الحوادث”، وطالما إنها “حوادث” فهي ليست من فعل فاعل، وبالتالي فالكل إزاءها سواء.
ولأن الانقسام عميق ومجذر ومختلطة أسبابه ومتعددة مصادره الموروثة والمنقولة و(المحمولة)، يظل المسؤول عن أي كارثة وطنية في فلسطين حراً طليقاً، وبريئاً كل البراءة في نظر فئة أو فئات، بل ربما تحول بسبب فعله إلى بطل، كيداً بالخصوم ونكاية بهم وتشفياً أو منعاً للشماتة وهذا أضعف الإيمان!
فما أسرع ما تلبس الكارثة اللبوس التنظيمي ، فإذا المتضرر طرف لا الكل، وإذا ثمة مستفيد منها حتى ولو كانت فائدته من نوع لحس المبرد!
حتى الجوع صار – بأسبابه – تنظيميا
فجوع الشعب سببه من في الشرقية، والعكس بالعكس
هنا يقولون: السبب هو الحكم!
وهناك يقولون: بل السبب الحكومة!
هنا يقولون: إن المضاربة على الدولار تتم هناك، وبالتواطؤ مع الحكم!
وهناك يقولون: لو اجتمع الطرفان لصلح الحال
هنا يقولون: إنهم يريدون تركيعنا وإخضاعنا للهيمنة الفئوية والحزبية المتحكمة بالناس هناك!
وهناك يقولون: إنهم يريدون التمكين للسيطرة الحمساوية ومدها لتشمل مناطقنا المحررة …
وكالعادة ينتهي حوار الطرشان هذا بأن يتلاقى الجميع في ساحة المزايدة ونفاق الجمهور، فإذا بالمتصارعين يتفقون فجأة على المصالحة وإذا الحمساوي والشيوعي و الشعبية والاشتراكي و”الجهاد الإسلامي ” والأتباع يلتقون على مطلب الضغط على الشعب وكفى الله المؤمنين شر القتال!

طبعاً إتفاقهم، سرعان ما ينتهي مفعوله، بل هو في الغالب يزيد من خطورة الحالة ويفاقم التردي، فينقل الأزمة من الأفراد إلى المؤسسات ويغرق الشعب في مزيد من الديون ويدفع البلاد إلى لجة الفقر الرهيبة، بحيث يصبح الحل، حتى المؤقت، صعباً في مستوى الاستحالة!
هكذا يزيد جوع المواطن، المتعدد الأسباب الآن، وتكتسب المراجع المسؤولة والقيادات والزعامات المزيد من المناعة، فالاتهام الجماعي والمطلق هو أقصر الطرق إلى التبرئة الجماعية والمطلقة لصناع الكارثة هؤلاء.

لا بريء، إذن!! هذا يعني أن ليس هناك من متهم! فأي متهم هو في الوقت متهم أو متواطئ أو شريك للمتهمين!
وتظل الدعوى عالقة لأنها ضد مجهول، ففي القفص يحتشد المدعي والمدعى عليه والنائب العام ومحامي الدفاع وحضرات المستشارين!!
تضيع “القضية” والمسؤولية ويتحول الأمر إلى ما يشبه الكارثة الطبيعية، شأن الزلزال، أو الطوفان أو الجفاف الشامل للمعضلة السياسية،
فالجوع كافر، لكن الجياع يظهرون الإيمان!
وسبب الجوع سياسي لكن الجياع يتلهون بنتائجه المريعة على وقائع حياتهم اليومية واسباب معاشهم،
حتى الجوع لم يوحدنا بما فيه الكفاية،
لا الأرض وحدتنا، ولا الإيمان بالله واحد كان كافياً للتوحيد، ولا وحدتنا حقيقة إن الرغيف واحد وإن انعكاسات المأساة واحدة، لا شرقية فيها ولا غربية!
لا العدو وحدنا في وجهه، ولا نحن توحدنا في تحديد الصديق والتفاهم معه،
حتى ممارسات التنظيمات، وهي من الطبيعة ذاتها، هنا وهناك، لم توحدنا، فما زال بعضها “حامياً” وبعضها الآخر “معتدياً”، بعضها “متعصب وتابع” والبعض الآخر “محرر” وضرورة من أجل السيادة والاستقلال والحرية والكرامة والعنفوان الأبي!!
ثم ماذا والى متى ؟
الحل يتطلب قوة ضغط سياسية تعجل في فرض الوفاق كضرورة وطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوطن ومن يمكن إنقاذه من المواطنين،
الحل في أن نتوحد في الجوع كطريق أخيرة للتوحد في الوطن وفي الهوية.
الحل في أن يتلاقى الجياع، ذات يوم، لينتزعوا رغيفهم من سارقيه جميعاً.
الحل في ثورة الجياع، وهذا هو المستحيل بعينه لأن “عنطزة” للفلسطينيين تمنعهم من الاعتراف بأنهم فقراء وجياع، ولأن قياداتهم جميعاً موحدة ضد الثورة،
الحل في أن يصل المواطن إلى القرار الصعب والصح: أن يقاتل ضد زعيمه الدجال، ضد قيادته الفاشلة، ضد حركته وحزبه إذا لزم الأمر، ضد ذاته المشوهة بحروب الإخوة.
الحل في أن يثبت هذا المواطن وجوده،
الحل في أن نحول الإنقسام إلى ثورة ضد المتسببين فيه والمنتفعين منه والعاملين لإدامته
الحل في أن نحارب الحرب لنصنع الثورة، وعبر الثورة يجيء المواطن ويزهر حلم الوطن،
الحل في الصعب،
وأن نموت في طلب الصعب خير ألف مرة من أن نموت جوعاً ونحن نسعى وراء رغيف لن تطاله يدنا لأن “أيديهم” هي الأطول.

فهل نقدر على إلحاق الهزيمة بهم لتكون لنا الحياة؟!
وبعد هزيمتهم سيكون ميسوراً كل اليسر أن تحقق المطالب جميعاً من الرغيف إلى الإنصاف والاصلاح المنشود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى