مقال

رسالة من داخل السّجن (رواية قيد الإنجاز)

ــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: رشيد (فوزي) مصباح
ــــــــــــــــــــــــ
الجزء الرّابع
(5)
سنوات التّهميش التي قضيتها في السنوات الأولى كانت كافية لتحطيم ما تبقى في نفسي من كرامة وشرف. وبمرور الأيّام عرفتُ أن فرض النّفس لا يتأتّى من العدم، ولا حتّى عن طريق الكفاءة والمستوى، لأن الذين بيدهم القرار والحل والرّبط لم يشغلوا الكراسي، التي زاحموا الآخرين فيها “بالمنكب والسّاق” وبذلوا النّفس والنّفيس وكلّ ما في وسعهم ولديهم بغرض الوصول إليها و أزاحوهم عنها، عبثا أو إرضاء للسذّج أمثالي. والكفاءة في الإدارة الجزائرية تعني الانصياع و الإذعان، وأن تكون صحيح الوجه ليس في قلبك ذرّة رحمة ولا في وجهك قطرة دم، وانتهازيا و فاسدا حتّى النّخاع. وقد دفعتُ ثمن تجاهلي لهذه القاعدة “البراغماتية” و الغائيّة المضلّة.
وجدتُ السرّ في الصّبر على الأيّام، وبالتماهي معهم وكتم الأسرار، و[إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ]؛ لم أشعر بالأيام وهي تمرّ مرور الكرام، غدوتُ فيها كحقيبة في يد الغير، وتحوّلتُ فيها من شاب بريء إلى شخص فاقد للضّمير. ومع ذلك كنتُ أنتظر معجزة من السّماء تنقذني ممّا أنا فيه ولم أفقد الأمل، إلى أن جاء اليوم الذي شقّ فيه نور اليقين عتمة الفجور، والعبث الذي ضيّعني. وفي إحدى اللّيالي من تلك التي تشبه بعضها في التيه والمجون، رأيتُ فيما يرى النّائم آية قرآنية كُتبتْ حروفها العربية العريضة بلون السّماء على جبل “مخيريقا” الأخشب الذي احتلّ مكانة مميّزة في قلوب المؤمنين البسطاء، وعلى مرمى حجر منه مكان تُقدّم فيه القرابين في زردة “فاطمة السوداء” الوليّة الصّالحة المعروفة.
نهضتُ مرعبا وقد تجلّتْ معالم الهداية في آية كريمة كُتبتْ أحرفها بمداد من اليقين الذي لا يخامره شكّ ولا يعتريه باطل. فكنتُ أُحدّث هذا عنها وذاك هنا وهناك، وفي كل فرصة ومناسبة. وبقيتُ انتظر الفرج من الله، وأعوذ بالله من ظلم أقترفتُه بسبب الجهل والنّزق؛ فإن المرء الجهول لا ينتبه إلى فداحة ما اقترفته يداه إلاّ حينما يتعرّض لأنواع البلاوي والشّدائد، عندها فقط يشعر بالخيبة والنّدم. لكنّه في كل مرّة يتهاون ويؤخّر التّوبة ويسوّف… والموت يأتي بغتة دون إشعار مسبق. وبمرور الوقت الذّنب يكبر وينمو كالفطر، والنّدم يتحوّل بعد ذلك إلى ألم ينخز ويلسع. وأخطر الذّنوب تبقى عالقة بالذّهن و لا تسقط من الذّاكرة بعد التّوبة، ولا حتى بعد الموت.
وبناء على ما سبق، فقد قرّرتُ أن أنسحب من حياة الزّيغ والفجور، وأنجو بنفسي من مقصلة العذاب، وأعمل صالحا و أتوب… ولعلّني بذلك أكفّر عن بعض هذه الذّنوب. ولذلك لم أُضيّع أوّل فرصة جاءتني في مندوبية “بعض الشّهور”، والتي بيّتوا فيها بنيّة تزوير الانتخابات البلدية، ومن خلال تعييني على رأس هذه المندوبية البائسة، ولفائدة شخص مهذّب ولطيف، لكنّه ضعيف البنية والشّكيمة لا تتوفّر فيه أدنى شروط المسئولية. ولأن من يسيطرون على الإدارة الخبيثة المتعفّنة لايهمّهم الشّخص بقدر ما يهمّهم خضوعه وإذعانه، وشعارهم في ذلك هو: [Être bête et discipliné]. بمعنى: كن “كلبا” غبيّا ومطيعا في آن واحد كي يرضوا عنك و تنال بثقتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى