مقال

أبو طاهر القرمطى ” الجزء الثالث

 

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الثالث مع أبو طاهر القرمطى، وقد توقفنا مع القرامطة عندما أرادوا أن يسلموا الحجر الأسود فقالوا لهم إن لنا في الحجر الأسود علامة، فإن كانت موجودة فهو هو، وإن كانت معدومة، فليس هو، ثم رفع حديثا غريبا أن الحجر الأسود يطفو على وجه الماء ولا يسخن بالنار إذا أوقدت عليه، فأحضر القرمطي طستا فيه ماء ووضع الحجر فيه فطفى على الماء، ثم أوقدت عليه النار فلم يحس بها فمد عبد الله المحدث يده وأخذ الحجر وقبله وقال أشهد أنه الحجر الأسود، فتعجب القرمطي من ذلك، وقال هذا دين مضبوط بالنقل وأرسل الحجر إلى مكة، غير أن ابن دحية قال عبد الله بن عكيم هذا لا يعرف، والحجر الأسود جلمد لا تخلل فيه والذى يطفو على الماء يكون فيه بعض التخلل كالخفاف وشبهه، وكما ذكر ابن كثير في أحداث سنة ثلاثة مائة وتسعه وثلاثين من الهجرة أنه ذكر خبر رجوع الحجر وقال في هذه السنة المباركة في ذى القعدة منها رد الحجر الأسود المكي إلى مكانه في البيت، وكان ملكهم إذ ذاك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسين الجنابى.

 

ولما وقع هذا أعظم المسلمون ذلك، وقد بذل لهم الأمير بجكم التركي خمسين ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه فلم يفعلوا، وقالوا نحن أخذناه بأمر فلا نرده إلا بأمر من أخذناه بأمره، فلما كان في هذا العام حملوه إلى الكوفة وعلقوه على الأسطوانة السابعة من جامعها ليراه الناس، وكتب أخو أبى طاهر كتابا فيه إنا أخذنا هذا الحجر بأمر وقد رددناه بأمر من أمرنا بأخذه ليتم حج الناس ومناسكهم، وكان بعد ان خرج القرامطة من مكة حاملين معهم الحجر الأسود والأموال التي نهبوها من الناس متوجهين إلى هجر، تعقَّب ابن محلب أمير مكة من قبل العباسيين القرامطة مع جمع من رجاله وطلب منهم رد الحجر الأسود إلى مكانه على أن يملكهم جميع أموال رجاله إلا أن القرامطة رفضوا طلبه مما اضطره إلى محاربتهم حتى قتل على أيديهم، وكانت هذه هي أول محاولة لإسترداد الحجر الأسود، وقد ظل الحجر الأسود بحوزة القرامطة مدة اثنين وعشرين سنة في البحرين، ولم تجد كل المحاولات والمساعي التي بذلها العباسيون والفاطميون.

 

من أجل الضغط على القرامطة وإجبارهم على إعادة الحجر الأسود، وقد عرض الخلفاء على القرامطة مبلغا قدره خمسين ألف ألف دينار مقابل إرجاعهم للحجر الأسود، لكن القرامطة ظلّوا يخوضون في عنادهم، ولما رُدَّ الحجر الأسود إلى مكّة كان أمير مكة حاضرا مع حشد من أهلها، وأرجع سنبر الحجر بيديه إلى مكانه، وقيل إن رجلا يدعى حسن بن مزوّق البناء قام بنصب الحجر عند جدار الكعبة وأحكم مكانه بالجص، وفي هذه السنة المباركة في ذى القعدة منها رُد الحجر الأسود إلى مكانه في البيت، وقد كانت القرامطة أخذوه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة وكان ملكهم إذ ذاك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي، ولما وقع هذا أعظم المسلمون ذلك جدا، وقد بذل لهم الأمير بجكم التركي خمسين ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه، فلم يقبلوا، وقالوا نحن أخذناه بأمر، فلا نرده إلا بأمر من أخذناه بأمره، وقد ذكر غير واحد أن القرامطة لما أخذوه حملوه على عدة جمال، فعطبت تحته، واعترى أسنمتها القرح، ولما ردوه حمله قعود واحد ولم يصبه أذى”

 

وقال ابن كثير في حوادث سنة ثلاثة مائة واثنين وثلاثين من الهجرة وفي رمضان من هذه السنة، كانت وفاة أبى طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي، رئيس القرامطة قبحه الله وهذا هو الذي قتل الحجيج حول الكعبة وفي جوفها، وسلبها كسوتها، وأخذ بابها وحليتها، واقتلع الحجر الأسود من موضعه وأخذه معه إلى بلده هجر، فمكث عنده من سنة سبع عشرة وثلاثمائة ثم مات وهو عندهم، لم يردوه إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ولما مات هذا القرمطي، قام بالأمر من بعده إخوته الثلاثة، وهم أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف، بنو أبي سعيد الجنابي، وكان أبو العباس ضعيف البدن، مقبلا على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوب مقبلا على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمة الثلاثة واحدة، لا يختلفون في شيء، وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضا، وقال ابن الأثير في كتابه الكامل في حوادث سنة ثلاثة مائة وتسع وثلاثين من الهجرة ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسود وقال في هذه السنة أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة.

 

وقالوا أخذناه بأمر، وأعدناه بأمر، وكان بجكم قد بذل لهم في رده خمسين ألف دينار، فلم يجيبوه، وردوه الآن بغير شيء في ذي القعدة، فلما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة، وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، وكانوا أخذوه من ركن البيت الحرام سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة وكانت إقامة القرامطة بمكة أحد عشر يوما، فلما عاد القرمطي إلى بلاده رماه الله تعالى في جسده حتى طال عذابه، وتقطعت أوصاله وأطرافه، وهو ينظر إليها، وتناثر الدود من لحمه، وقال ابن خلدون في كتاب “العبر وديوان المبتدأ والخبر” وفي سنة ثلاثة مائة سبع عشرة هجم على مكة، وقتل كثيرا من الحجاج ومن أهلها، ونهب أموالهم جميعا، وقلع باب البيت والميزاب، وقسم كسوة البيت في أصحابه، واقتلع الحجر الأسود وانصرف به، وأراد أن يجعل الحج عنده، وكتب إليه عبيدالله المهدي من القيروان يوبخه على ذلك ويتهدده، فكتب إليه بالعجز عن رده من الناس، ووعد برد الحجر، فرده سنة ثلاثة مائة تسع وثلاثين.

 

بعد أن خاطبه منصور بن إسماعيل من القيروان في رده فردوه، وقد كان بجكم المتغلب على الدولة ببغداد أيام المستكفي بذل لهم خمسين ألفا من الذهب على أن يردوه، فأبوا وزعموا أنهم إنما حملوه بأمر إمامهم عبيدالله، وإنما يردونه بأمره، وأمر خليفته وأقام أبو طاهر بالبحرين، وهو يتعاهد العراق والشام بالغزو، حتى ضربت له الإتاوة ببغداد وبدمشق على بني طنج، ثم هلك أبو طاهر سنة ثلاثة مائة واثنتين وثلاثين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه، ومات عن عشرة من الولد، كبيرهم سابور، وولى أخوه الأكبر أحمد بن الحسن، واختلف بعض العقدانية عليه، ومالوا إلى ولاية سابور بن أبي طاهر، وكاتبوا القائم في ذلك، فجاء جوابه بولاية الأخ أحمد، وأن يكون الولد سابور ولي عهده، فاستقى أحمد في الولاية عليهم، وكنوه أبا منصور، وهو الذى رد الحجر الأسود إلى مكانه ثم قبض سابور على عمه أبي منصور، فاعتقله بموافقة إخوته على ذلك، وذلك سنة ثلاثة مائة وثمان وخمسين، ثم ثار بهم أخوه فأخرجه من الاعتقال، وقتل سابور.

 

ونفى إخوته وأشياعهم إلى جزيرة أوال، ثم هلك أبو منصور سنة ثلاثة مائة وتسع وخمسين، ويقال أنه مات مسموما على يد شيعة سابور، وولي ابنه أبو علي الحسن بن أحمد، ويلقب الأعصم، وقيل الأغنم، فطالت مدته، وعظمت وقائعه، ونفى جمعا كثيرا من ولد أبي طاهر، ويقال اجتمع منهم بجزيرة أوال نحو من ثلاثمائة، وحج هذا الأعصم بنفسه، ولم يتعرض للحاج، ولما اقتلع أبو طاهر القرمطي الحجر الأسود، قال شعرا يدل على عظيم زندقته، وهكذا يتذكر الناس عند قدوم شهر رمضان بشائره وانتصارات المسلمين فيه، وهذا حق، ولكن ثمة بشائر أخرى تغيب، وهي إهلاك الله للظالمين في شهر رمضان، وفي واحدة من أضعف لحظات الخلافة العباسية، حيث جرى انقلاب عسكري فاشل على الخليفة المقتدر بالله هاجم أبو طاهر القرمطي مكة المكرمة يوم التروية فدخل الحرم وارتكب فيه مذبحة شنيعة، فلم ينج أحد ولو تعلق بأستار الكعبة، فقتل خلقا كثيرا وألقى الجثث في بئر زمزم.

 

وصاح من فجوره أنا الله وبالله، أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا، ونزع كسوة الكعبة ومزقها ونزع باب الكعبة وهدم القبة المبنية على زمزم، وأمر باقتلاع الحجر الأسود فكان الذي اقتلعه يصيح أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل؟ ثم أخذوا الحجر إلى بلادهم ونهبوا ديار المكيين وقتلوا منهم نحو ثلاثين ألفا، واستمر إفسادهم وهجومهم على البلاد في ظل عجز من الخلافة العباسية، وتناحر قادتها، حتى أنعم الله على الأمة بهلاك زعيمهم أبي طاهر هذا فى شهررمضان عام ثلاثة مائة واثنين وثلاثين من الهجرة وعمره ثمانية وثلاثون عاما فقط، وتضعضع من بعده أمر القرامطة، وزاد حال الخلافة العباسية سوءا، وانقضت بموته عشرون عاما عصيبة لم يكن في تاريخ الإسلام مثلها.أبو طاهر القرمطى " الجزء الثالث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى