مقال

دنيا ودين ومع وداع رمضان ” الجزء الرابع

دنيا ودين ومع وداع رمضان ” الجزء الرابع

 اإعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء التاسع مع وداع رمضان، وقد توقفنا عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر” رواه مسلم، ويقتضي ظاهره اشتراط الانتهاء من قضاء رمضان ثم صيام الست من شوال ليحصل الأجر المذكور، ومن وسائل الثبات بعد رمضان هو الاستعانة بالله عز وجل وسؤاله الثبات، وأن تجعل من رمضان نقطة إنطلاق لك، وتذكر أن من لم يختم القرآن في شوال، ولم يصم بضعة أيام فغالبا لن يفعل طوال العام حتى يحين رمضان آخر، فاجتهد في البحث عن الصحبة الصالحة التي تعينك على الطريق، لقوله صلى الله عليه وسلم “مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يُصبك منه شيء أصابك منه ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يُصبك من سواده أصابك من دخانه، وكذلك التنويع في الطاعات، فالنفس ملولة بطبعها، والطاعات كثيرة ومتنوعة من تلاوة وصيام وقيام الليل والدعاء والذكر والصدقة وعيادة المريض وغيرها.

 

وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال “أدومها وإن قل” وقال ” اكلفوا من الأعمال ما تطيقون” رواه البخارى، فاحرص على وضع حد أدنى لعباداتك تلتزم بها وقت فتورك، وفي وقت نشاطك وزيد عنها بما استطعت، وأيضا البعد عن المعاصي، والاهتمام بكل ما سيحاسبك الله عليه كالوقت والصحة والمال وغيرها، فالفراغ هو أول باب للبعد عن الله وحرمان لذة الطاعة كونه بيئة مناسبة لارتكاب الذنوب لا شعوريا، وقد قال ابن رجب في وداع رمضان، واسمعوا لقلوب السلف رضوان الله تعالى عليهم كيف كانت تتخرق لفراق هذا الشهر، يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة الوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترقع من الصيام ما تخرق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق،عسى وعسى من قبل يوم التفرق إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي، فيجبر مكسور.

 

ويقبل تائب ويعتق خطاء ويسعد من شقي، فرحلت يا رمضان والرحيل مر على الصالحين، فابكوا عليه بالأحزان وودعوه، وأجروا لأجل فراقه الدموع وشيعوه، ولقد مضت الأعمال، والصيام، والقيام، والزكاة، والصدقة، وختم القرآن، والدعاء، والذكر، وتفطير الصائم، وأنواع البر التي حصلت، والعمرة التي قام بها الكثير، لكن هل تقبلت أم لا؟ هل قبل العمل أم لا؟ فكان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رده، وهؤلاء الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يعطي ويخشى ألا يقبل منه، يتصدق ويخشى أن ترد عليه، يصوم ويقوم ويخشى ألا يكتب له الأجر، فيا أيها المقبول هنيئا لك، ويا أيها المردود جبر الله مصيبتك، فإذا فاته ما فاته من خير رمضان فأى شيء يدرك، ومن أدركه فيه الحرمان، فماذا يصيب؟ كم بين من كان حظه فيه القبول والغفران ومن كان حظه فيه الخيبة والخسران؟ أيها المسلمون من علامات التقوى هو الامتناع عن الفسق بعد رمضان.

 

فإن الذي يخشى على عمله ولا يدرى هل قبل منه أم لا، يجتهد في العبادة ويواصل في الطاعة، والذي يظن أنه قد عمل حسنات أمثال الجبال، فلا يهمه بعد ذلك ويقول عندى رصيد وساعة لربك وساعة لقلبك، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” وقال “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” وقال “من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” فمغفرة الذنوب لهذه الأسباب الثلاثة، كل واحد منها مكفر لما سلف من الذنوب، وهي صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر، فتحصل المغفرة والتكفير بقيام ليلة القدر ولمن وقعت له وأصابها، سواء شعر بها أم لم يشعر، أما في صيام رمضان وقيامه فيتوقف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تم الشهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه، فيترتب على ذلك مغفرة ما تقدم من ذنبه، ومن نقص من العمل الذي عليه نقص له من الأجر بحسب نقصه، فلا يلومن إلا نفسه، فإن الصلاة مكيال.

 

والصيام مكيال فمن وفاها وفى الله له، ومن طفف فيهما فويل للمطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهواته، ويطفف في مكيال صيامه وصلاته؟ فإذا كان الويل لمن طفف في مكيال الدنيا، وهذا الويل لمن طفف، فكيف حال الذى فرط بالكلية؟ كيف حال الذى لم يقم ولم يصم وهم أعداد ممن ينتسبون إلى الإسلام؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم “من أدركه رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله” وقالها جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له قل آمين، فقلت آمين، وهو دعاء عليه بالإبعاد عن رحمة الله والطرد عنها، لأن ذلك الشهر قد مر ولم يستفد منه لأن ذلك الموسم العظيم قد حصل ولم ينهل منه، لم ينتهز الفرصة فتبا له، وإذا كان لم ينتهز الفرصة العظيمة فهو لإهمال ما هو أدنى منها من باب أولى، أى إذا فرط في رمضان فتفريطه في غير رمضان من باب أولى، ولذلك أبعده الله لأنه لا يستحق أجره، ولا يستحق الرحمة ولا المغفرة، ولا شك أيها المسلمون أننا قد حصل منا تطفيف بالصيام والقيام.

 

وقد حصل منا إخلال بآداب الصوم الواجبة والمستحبة، فإن الفائزين في رمضان , كانوا في نهارهم صائمون , وفي ليلهم ساجدون , بكاء خشوع, وفي الغروب والأسحار تسبيح , وتهليل وذكر واستغفار, ما تركوا بابا من أبواب الخير إلا ولجوه, ولكنهم مع ذلك, قلوبهم وجله وخائفة،لا يدرون هل قبلت أعمالهم أم لم تقبل ؟ وهل كانت خالصة لوجه الله أم لا ؟ فإن المعول على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبار ببر القلوب وطهارتها، لا بعمل الأبدان، رُب قائم حظه من قيامه التعب والسهر، كم من قائم محروم، ونائم مرحوم، هذا نائم وقلبه ذاكر، وهذا قائم وقلبه فاجر، لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات، والاجتهاد في الأعمال الصالحات، والانزجار عن المكروهات، وأعمال السيئات، وكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فيُيسرن لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيسرون لعمل أهل الشقاوة، فالمبادرة المبادرة، إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر، فعسى أن تدرك ما فات من ضياع العمر.

 

فإن الصيام وسائر الأعمال من وفاها فهو من خيار عباد الله الموفين، ومن طفف فيها فويل للمطففين، إذا كان الويل لمن طفف ميكال الدنيا فكيف حال من طفف ميكال الدين؟ فيا أيها العاصي وكلنا كذلك لا تقنط من رحمة الله لسوء أفعالك، فكم في هذه الأيام من معتق من النار، من أمثالك؟ فأحسن الظن بمولاك وتب إليه، فإنه لا يهلك على الله إلا هالك، الاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة والحج وقيام الليل، وتختم به المجالس، فإن كانت ذكرا، كان كالطابع عليها، وإن كانت لغوا كان كفارة لها فكذلك ينبغي أن يُختم صيام رمضان بالاستغفار، فكتب عمر بن عبدالعزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار، والصدقة، صدقة الفطر فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث، ولقد رحل رمضان ورحيله مر على الجميع، الفائزين والخاسرين، الرحيل مر على الفائزين لأنهم فقدوا أياما ممتعة، وليالي جميلة، نهارها صدقة وصيام، وليلها قراءة وقيام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى