مقال

الدكروري يكتب عن التفكر في مخلوقات الله ” جزء 2″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن التفكر في مخلوقات الله ” جزء 2″
بقلم / محمــــد الدكــــرورى

ونكمل الجزء الثاني مع التفكر في مخلوقات الله، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة أي سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع من أجنحتها، وتقيء العسل من فيها، وتبيض الفراخ من دبرها، ثم تصبح إلى مراعيها” ومعاني هذه الآية الكريمة الحقيقة بالتفكر في أحوال النحل ونجد هنا كمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر ربها عز وجل، إذ اتخذت بيوتها في هذه الأمكنة الثلاثة في الجبال وفي الشجر وفي بيوت الناس حيث يعرشون أي يبنون العروش وهي البيوت، فلا يرى للنحل بيت غير هذه الثلاثة البتة، وكذلك اجتهادها في صنعة العسل، وبناؤها البيوت المسدسة التي هي من أتم الأشكال وأحسنها استدارة وأحكمها صنعة، فإذا انضم بعضها إلى بعض.

لم يكن بينها فرجة ولا خلل كل هذا بغير مقياس ولا آلة ولا بيكار، وتلك من أثر صنع الله وإلهامه إياها وإيحائه إليها، وكذلك فإن أكثر بيوتها في الجبال وهو البيت المقدم في الآية، ثم في الأشجار وهي من أكثر بيوتها، ومما يعرش الناس، وأقل بيوتها بينهم حيث يعرشون، وأما في الجبال والشجر فبيوت عظيمة يؤخذ منها من العسل الكثير جدا، وما أداها إليه حسن الامتثال من اتخاذ البيوت أولا، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمار ثم أوت إلى بيوتها لأن ربها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولا، ثم بالأكل بعد ذلك، ثم إذا أكلت سلكت سبل ربها مذللة لا يستوعر عليها شيء ترعى ثم تعود، ومن عجيب شأنها أن لها أميرا يسمى اليعسوب، لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به، فهي مؤتمرة لأمره سامعة له مطيعة، وله عليها تكليف وأمر ونهى، وهي رعية له منقادة لأمره متبعة لرأيه، يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته.

حتى أنها إذا أوت إلى بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم الأخرى، ولا تتقدم عليها في العبور بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوزه إلا واحد واحد، ومن تدبر أحوالها وسياستها وهدايتها، واجتماع شملها، وانتظام أمرها، وتدبير ملكها، وتفويض كل عمل إلى واحد منها يتعجب منها كل العجب، ويعلم أن هذا ليس في مقدورها ولا هو من ذاتها فإن هذه أعمال محكمة متقنة في غاية الإحكام والإتقان ومن عجيب أمرها أن فيها أميرين لا يجتمعان في بيت واحد، ولا يتأمران على جمع واحد، بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا أحد الأميرين وقطعوه، واتفقوا على الأمير الواحد من غير معاداة بينهم ولا أذى مـن بعضهم لبعض بل يصيرون يدا واحدة وجندا واحدا، ومن أعجب أمرها ما لا يهتدي إليه الناس ولا يعرفونه.

وهو النتاج الذي يكون لها هل هو على وجه الولادة والتوالد أو الاستحالة؟ فقل من يعرف ذلك أو يفطن له، فمن الذي أوحى إليها أمرها وجعل ما جعل في طباعها، ومن الذي سهل لها سبله ذللا منقادة لا تستعصي عليها ولا تستوعرها، ولا تضل عنها على بعدها، ومن الذي هداها لشأنها، والنحل من ألطف المخلوقات وأنقاه وأنظفه، ولذلك لا تلقي مخلفاتها في خليتها، بل تطير ثم تلقيها بعيدا عنها، وتأبى النتن والروائح الكريهة، تأبى القذارة، ولذلك إذا رجعت إلى الخلية بالعشية، وقف على باب الخلية بواب منها، ومعه أعوان كثر، وكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها، فإن وجد فيها رائحة منكرة، أو رأى بها قذرا منعها من الدخول، وفي عالم النحل ملكة وعاملات، وفيه نظام وانضباط، وفيه تناغم واتساق، وكلها مظاهر من عظمة الخالق المبدع الذي جعل من أمة النحل مثالا يحتذى به في التعاون والنظام، الكل يعمل حسب سنه ودوره.

المهندسات والبناءات يشيدن قرص النحل، والعاملات يقمن برحلات للكشف عن أماكن الرحيق، والكيميائيات يتأكدن من نضوج العسل وحفظه، والخادمات يحافظن على نظافة الشوارع والأماكن العامة في الخلية، والحارسات على باب الخلية يراقبن من دخل إليها ومن خرج، يطردن الدخلاء، أو من أراد العبث بأمن الخلية، فمن علم هؤلاء كل هذا؟ ومن أوحى لهنّ هذه الأدوار؟ والنحلة لا تأكل بمرادها وبشهوة منها، بمقدار ما تأكل بأمر ربها لها كما قال تعالى “ثم كلي من كل الثمرات” فتأكل من الحلو والمر لا تتعداه إلى غيره من غير تخليط، ولذلك طاب عسلها لذة وحلاوة وشفاء، وكذلك المؤمن لا يأكل إلا طيبا ولو صبر على مر العيش، فإن أكله حلال، فيكون بعيد الوقوع في الحرام والشبهات لا تهوى نفسه هذا الحرام، ولو كان له جمال في الظاهر، فإنه في الباطن مر كالعلقم، فإن الحرام أمرّ من العلقم، وكذلك المؤمن صلح باطنه وظاهره، أفعاله طيبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى