مقال

الدكروري يكتب عن الإمام السخاوي ” جزء 2″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام السخاوي ” جزء 2″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وقد سمع الإمام السخاوي الكثير عن أستاذه وشيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقد لازمه أشد الملازمة وحمل عنه ما لم يشاركه فيه غيره، وأخذ عنه أكثر تصانيفه وقال عنه هو أمثل جماعتي، ويمثل شمس الدين السخاوي شخصية بارزة تتبوأ مكانة رفيعة في آداب مصر الإسلامية، وفي الآداب العربية بوجه عام، وتمثل وحدها مدرسة فكرية زاهرة، وتمتد عبقريتها الشاملة إلى عدة نواح وفنون مختلفة، وما زال تراثها إلى اليوم يكون مجموعة قوية حافلة في تراث الأدب العربي والتفكير الإسلامي، كما ملأت شخصيته الحركة الأدبية المصرية زهاء نصف قرن، فالسخاوي إحدى هذه العبقريات الأدبية التي تفتحت بمصر في القرن التاسع الهجري وهو القرن الخامس عشر الميلادي، واختتمت بها مصر الإسلامية حياة أدبية باهرة سطعت مدى قرنين، وقد ذكر الكثير من العلماء ممن تعرضوا لترجمة الحافظ السخاوي العديد من مناقبه.

 

مما يبين علو منزلته ومكانته، فهذا ابن العماد الحنبلي يقول فيه “وانتهى إليه علم الجرح والتعديل، حتى قيل لم يكن بعد الذهبي أحد سلك مسلكه، ومما قاله الشوكاني “ولو لم يكن لصاحب الترجمة من التصانيف إلا الضوء اللامع لكان أعظم دليل على إمامته” وللسخاوي تراث حافل ينم عن غزير مادته ونشاطه، ويعني السخاوي في ترجمة نفسه بتعداد رسائله ومؤلفاته، ويضم هذا الثبت الحافل كتبا ورسائل في عدة فنون مختلفة، حيث تنقسم آثاره إلى قسمين، وهما قسم الحديث، وقسم التاريخ، وقد كان السخاوي محدثا كبيرا، انتهى إليه علم الحديث في عصره، كما كان أيضا مؤرخا بارعا، ونقادة لايجاري والجمع بين الحديث والتاريخ خاصة لكثير من أقطاب المؤرخين المسلمين مثل كتاب السيرة، والطبري، والذهبي، وعلم الحديث بما يحتويه من قواعد الإسناد وتمحيص الرواية، والجرح والتعديل، خير معوان للمؤرخ الناقد على تحري الحقائق.

 

وهكذا كان السخاوي محدثا ومؤرخا وكانت براعته النقدية في التاريخ ترجع في كثير من الوجوه إلى براعته في الجرح والتعديل كمحدث وهذه الصبغة النقدية البارزة هي التي تسبغ على آثاره التاريخية قوتها وطرافتها، وقد بدأ السخاوي التأليف في ميدان الحديث، فوضع فيه عدة كتب ورسائل يعنى بتعدادها في ترجمته، وأشهرها كتاب المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة، وهو من كتب الحديث المتداولة، ومنها فتح المغيث بشرح ألفية الحديث والغاية في شرح الهداية، والأخبار المكللة في الأحاديث المسلسلة وشرح الشمائل النبوية للترمذي والتحفة المنيفة فيما وقع من حديث أبي حنيفة، وعدة كتب ورسائل أخرى في شرح متون الحديث، وعدة حواش وذيول لبعض كتب الحديث المعتبرة يذكرها كلها في ترجمته، وكتب السخاوي في هذه الفترة الأولى أيضا عدة رسائل عن رحلاته المختلفة منها الرحلة السكندرية وتراجمها الرحلة الحلبية.

 

وتراجمها الرحلة المكية والثبت المصري وفيها يصف تجواله ودراساته في تلك الأنحاء ووضع كتابا في تراجم شيوخه وأساتذته اسمه بغية الراوي فيمن أخذ عنه السخاوي، وأن أهم ما في تراث السخاوي هو مجهوده التاريخي والأدبي، ففيه يرتفع السخاوي إلى ذروة القوة، وفيه تبدو شخصيته في أبرز خواصها ومواهبها، وقد كان شيخ الإسلام ابن حجر في مقدمة أساتذته وكان ذلك الجوار الذي رتبته ظروف الحياة مبعث هذه الصلة الوثيقة التي استمرت مدى الحياة بين الأستاذ وتلميذه، والتي بثت غير بعيد إلى نفس الفتى نوعا من العبادة الروحية لهذا الذي كان يعتبر يومئذ إمام الأئمة وقطب العلماء والباحثين، والواقع أن ابن حجر كان يتبوأ يومئذ مركز الزاعمة العلمية في مصر الإسلامية، وكان في ذروة نضجه ومجده، وقد انتهت إليه الرياسة في معظم علوم العصر، ولا سيما الحديث والشريعة.

 

وكان بدء اتصال السخاوي بأستاذه في سنة ثماني مائة وثماني وثلاثين من الهجرة، أي وهو طفل لم يجاوز الثامنة من عمره وكان يذهب مع أبيه ليلا إلى مجالس الشيخ فيستمع إلى دروسه في الحديث، ويصف لنا السخاوي علاقته بأستاذه في عبارات مؤثرة تنم عما كان لهذه العلاقة من عظيم الأثر في تكوينه فيقول متحدثا عن نفسه “وقبل ذلك كله سمع مع والده ليلا الكثير من الحديث على شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته، فلازم مجلسه، وعادت عليه بركته في هذا الشأن وأقبل عليه بكليته إقبالا يزيد على الوصف بحيث تقلل ما عداه وداوم الملازمة لشيخه حتى حمل عنه علما جما، واختص به كثيرا بحيث كان من أكثر الآخذين عنه وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى