مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ذو النون المصري ” جزء 3″

الدكروري يكتب عن الإمام ذو النون المصري ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وهو يساق إلى المطبق والناس يبكون حوله وهو يقول هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب، ثم أنشد قائلا لك من قلبي المكان المصون كل لوم عليّ فيك يهون، لك عزم بأن أكون قتيلا فيك والصبر عنك ما لا يكون، وكان ذو النون يهيجه السماع، فقد حدثوا أنه لما دخل بغداد اجتمع إليه الصوفية ومعهم قوال فابتدأ ينشد قائلا صغير هواك عذبني فكيف به إذا احتنكا، وأنت جمعت من قلبي هوى قد كان مشتركا، أما ترثي لمكتئب إذا ضحك الخليّ بكى، فقام ذو النون وسقط على وجهه والدم يقطر منه، وكان من كلامه أنه قال الصوفية هم قوم آثروا الله على كل شيء، فآثرهم على كل شيء، وكانت نصائح ذي النون كثيرة وهي في فنون مختلفة من الأخلاق، فكانت الوصية الأولى يقول فيها ليس بذي لب من كاس في أمر دنياه، وحمق في أمر آخرته، ولا من سفه من مواطن حلمه، وتكبر في مواطن تواضعه.

 

ولا من فقد منه الهوى في مواضع طمعه، ولا من غضب من حق إن قيل له، ولا من زهد فيما يرغب العاقل في مثله، ولا من رغب فيما يزهد الأكياس في مثله، ولا من استقل الكثير من خالقه عز وجل، واستكثر قليل الشكر من نفسه، ولا من طلب الإنصاف من غيره لنفسه، ولم ينصف من نفسه غيره، ولا من نسي الله في مواطن طاعته، وذكر الله في مواطن الحاجة إليه، ولا من جمع العلم فعرف به ثم آثر عليه هواه عند متعلمه، ولا من قلّ منه الحياء من الله على جميل ستره، ولا من أغفل الشكر عن إظهار نعمته، ولا من عجز عن مجاهدة عدوه لنجاته إذا صبر عدوه على مجاهدته، ولا من جعل مروءته لباسه، ولم يجعل أدبه وورعه وتقواه لباسه، ولا من جعل علمه ومعرفته تظرفا وتزيينا في مجلسه، وهذه الوصية نقلها ابن عربي في الفتوحات، ويظهر أنه قالها في أحد المجالس، بدليل قوله ثم قال استغفر الله، إن الكلام كثير، وإن لم تقطعه لم ينقطع.

 

ثم قام وهو يقول لا تخرجوا من ثلاثة النظر في دينكم بإيمانكم، والتزود لآخرتكم من دنياكم، والاستعانة بربكم فيما أمركم به، ونهاكم عنه، وكانت الوصية الثانية ومن نظر في عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه، ومن اعتنى بالفردوس والنار شغل عن القيل والقال، ومن هرب من الناس سلم من شرهم، ومن شكر المزيد زيد له، وكانت الوصية الثالثة وهي أنه قيل واعتل رجل من إخوان ذي النون فكتب إليه أن يدعو له فكتب إليه ذو النون سألتني أن أدعو الله لك أن يزيل عنك النعم، واعلم يا أخي أن العلة مجازاة يأنس بها أهل الصفاء والهمم والضياء، ومن لم يعد البلاء نعمة فليس من الحكماء، ومن لم يأمن الشفيق على نفسه فقد أمن أهل التهم على أمره، فليكن معك يا أخي حياء يمنعك عن الشكوى، والسلام، ومن هذه الشواهد القليلة نعرف اتجاه ذي النون في فهم الأخلاق، فهو رجل يرى الخير كل الخير في الأنس بطاعة الله، ويرى المغنم الحق في صفاء القلوب.

 

وهكذا ولد ذو النون المصري بإخميم من صعيد مصر، ويرى بعضهم أن أصله من النوبة، ثم نزل إخميم فأقام بها، حيث إن أباه كان نوبيا، وكان يحيا أول الأمر حياة إنسانية كتلك التى يحياها الناس جميعا، يخضعون فيها لسلطان نفوسهم، وتفتن فيها الشهوات والملذات والمنافع المادية العاجلة نفوسهم، ولكنه ما لبث أن عرض له عارض، فإذا هو يتوب، وسئل ذو النون عن سبب توبته فقال نمت بالصحراء، ثم فتحت عينى، فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من وكرها، فانشقت الأرض فخرج منها سكرجتان، إحداهما ذهب، والأخرى فضة، فى إحداهما سمسم، والأخرى ماء، وجعلت تأكل من ذا وتشرب من ذا، فقلت حسبى، فتبت، وبعد أن اهتدى ذو النون إلى طريق الله عز وجل ساق القدر له شيوخا أخذ عنهم أصول الطريق، وذلك مثل شقران العابد وإسرافيل المغربى وفاطمة النيسابورية، وقيل كتب إليه رجل يسأله عن حاله.

 

فكتب إليه ذو النون مالى حال أرضاها، ولا لى حال لا أرضاها، كيف أرضى حالى لنفسى إذ لا يكون منى إلا ما أراد من الأحوال، ولست أدرى أيا أحسن حالى فى حسن إحسانه إلىّ، أم حسن حالى فى سوء حالى إذ كان هو المختار لى، غير أنى فى عافية ما دمت فى العافية التى أظن أنها عافية، وروى عنه أبو نعيم وغيره أنه قال كيف أفرح بعملى وذنوبى مزدحمة، أم كيف أفرح بعملى وعاقبتى مبهمة، وفى أثناء عرضه على الخليفة المتوكل يجمل المؤرخون أنه لما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل ورده إلى مصر معززا مكرما ثم قال ذو النون يا أمير المؤمنين، رجل يعلم أن الله خلقه، وخلق الجنة من أجله إن أطاعه، وخلق النار من أجله إن عصاه، لا يكون على مثل ما رميت من البدعة، ولا على مثل ما كنت من الغفلة، فبكى وخلى عنى وفى الحقيقة لم يكن خلاص ذى النون المصرى من الخليفة المتوكل بهذه الموعظة التى ذرفت منها عين المتوكل فحسب.

 

 

 

وإنما كان وراء ذلك عامل مهم، ما كان ليغفل عنه فى مواطن الشدة أمثال ذى النون، وهو طرق باب السماء، واللجوء إلى من بيده الأمر والملكوت، ولأهمية الإخلاص فى قبول العمل قال ذو النون اعلموا أنه لا يصفو للعامل عمل إلا بإخلاص، فمن أخلص لله لم يرج غير الله، واعلم أنه لا قبول لعمل يراد به غير الله، فمن أراد طريقا إلى الإخلاص فلا يدخلن أحدا فى إرادته غير الله، فشمر عن ساقك، واحذر حذر رجل لم يدخل فى العظمة لله تعظيم غير الله، وجعل الغالب على قلبه أنه لولا الله ما عملت عملا، فإذا غلب على قلبك ذلك فقد صفا قلبك بالإخلاص، والإخلاص يحتاج إلى الصدق، والصدق يحتاج إلى الإخلاص، فهما قرينان، ويجمع بينهما ذو النون قائلا الإخلاص لا يتم إلا بالصدق فيه والصبر عليه، والصدق لا يتم إلا بالإخلاص فيه والمداومة عليه، ويتجه إلى ربط المعرفة بالشريعة، فيقول علامة العارف ثلاثة لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنا من العلم ينقض عليه ظاهرا من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله عز وجل عليه على هتك أستار محارم الله تعالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى