مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ابن جهور ” جزء 4″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام ابن جهور ” جزء 4″
بقلم / محمـــد الدكـــروري

ومن هنا وبعد أن انفرد أبو الحزم بن جهور بالحُكم بلا منازع ينازعه، ولا خليفة ينادي بالحكم دونه، وهو رجل خبر السياسة والدهاء بحكم اشتغاله بالوزارة والكتابة وملازمة الخلفاء والمتسلطين على الخلافة، فعرفته التجارب أن التسلط والاستبداد طريق الزوال القريب، فابتكر نظاما سياسيا شوريا، أقرب إلى النظام الديمقراطي في وقتنا الحاضر، فلم ينفرد بالسياسة ولا بتدبير الأمور، بل شكل مجلسا شوريا وزاريا من الوزراء وأهل الرأي والمشورة والقيادة بقرطبة، وجعلهم أهل رأيه، لا يصدر عن رأي إلا بهم، ولا بسياسة إلا بتدبيرهم، وسمى نفسه أمين الجماعة، وكان إذا سُئل قال ليس لي عطاء ولا منع، هو للجماعة وأنا أمينهم، وإذا رابه أمر أو عزم على تدبير، أحضرهم وشاورهم فيسرعون إليه، فإذا علموا مراده فوضوا إليه بأمرهم وإذا خوطب بكتاب لا ينظر فيه إلا أن يكون باسم الوزراء، كما أنه اتبع سياسة أخرى كانت أشد ذكاء ودهاء.

فهو لم يفارق رسم الوزارة، ولم ينتقل من دور الوزارة إلى قصور الخلفاء والأمراء، بل دبرها تدبيرا لم يسبق إليه، وجعل نفسه ممسكا للموضع إلى أن يجيء مستحق يُتفق عليه، فيسلم إليه، ورتَب البوابين والحشم على أبواب تلك القصور على ما كانت عليه أيام الخلافة، ولم يتحول عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك، وهو المشرف عليهم، وإضافة إلى هذا الدهاء السياسي الذي اتبعه أبو الحزم بن جهور فقد كان من أشد الناس تواضعا وعفة وصلاحا، وأنقاهم ثوبا، وأشبههم ظاهرا بباطن، وأولا بآخر، لم يختلف به حال من الفتاء إلى الكهولة، ولم يعثر له قط على حال يدل على ريبة جليس كتاب منذ درج، ونجي نظر منذ فهم، مشاهدا للجماعة في مسجده، خليفة الأئمة متى تخلفوا عنه، حافظا لكتاب الله قائما به في سره وجهره، متقنا للتلاوة، متواضعا في رفعته، مشاركا لأهل بلده، يزور مرضاهم ويشاهد جنائزهم.

وهكذا تولى أبو الحزم جهور حكومة قرطبة والبلاد تعيش حالة توتر أمني فالبلاد تعيش بلا خليفة يحكمها، أو خليفة يلتف الناس حوله، فكانت البلاد مسرحا للعابثين من محترفي النهب والسرقة، كما شهدت فسادا اقتصاديا حيث غلت الأسعار، وتدهورت التجارة، وعم الاستغلال، وارتفعت الضرائب والمكوس، ونهبت الأموال العامة من مختلسي أموال الدول، وعاشت كذلك تدهورا علميا وفكريا فليست هناك حكومة تعتني بالعلماء والأدباء والشعراء، وتنفق عليهم من الأموال ما هو كفيل بإبداعهم وتفوقهم، فكان النظام الجديد الذي ابتكره أبو الحزم بن جهور كفيلا بأن يقف أمام هذه التحديات، التي تعصف بدول وحكومات لو ساءت الإدارة وتعسف المتحكمون، وسلك الوزير ابن جهور مسلك الحاكم المصلح، باتخاذ إجراءات إصلاحية في البلاد لعل أولها القضاء على الانفلات الأمني وأحداث الشغب، التي قد تعصف بالبلاد، وأن يوطد دعائم الأمن والنظام.

فعامل البربر الثائرين عليه بخفض الجناح والرفق في المعاملة، حتى حصل على سلمهم ومحبتهم، كما فرق السلاح على البيوت والمحلات حتى إذا دهم أمر في ليل أو نهار كان سلاح كل واحد معه، كما جعل أهل الأسواق جندا، وهذه السياسة كفيلة بأن تجعل البلاد بلد أمن وسلام، بل وأصبحت قرطبة ملجأ أمن للفارين والمنفيين من الأمراء المخلوعين عن عروشهم، فقرطبة في أيامه حريما يأمن فيه كل خائف من غيره، كما عمل أبو الحزم ابن جهور على إصلاح الفساد الاقتصادي فقضى على كل أنواع البذخ والترف، وعمل على حفظ الأموال العامة وخاصة الأموال السلطانية من السرقة، فقد جعل عليها رجالا يثق بقدرتهم وأمانتهم، وجعل نفسه مشرفا عليهم، كما عمل على خفض الضرائب والمكوس، وعمل على تشجيع المعاملات التجارية فوزع الأموال على التجار لتكون بيدهم دَينا عليهم، يستغلونها ويحصلون على ربحها فقط، وتحفظ لديهم.

ويُحاسبون عليها من وقت لآخر، وكانت النتيجة أن عم الرخاء قرطبة وازدهرت الأسواق، وتحسنت الأسعار، وغلت الدور، وعاد النماء بعد الكساد، ونتيجة لهذه السياسة الحكيمة التي اتبعها الوزير أبو الحزم بن جهور شهدت قرطبة ازدهارا سياسيا واقتصاديا، كان دافعا إلى إصلاح القضاء من ناحية حيث عم العدل بين الناس، وأمن الناس على حقوقهم، ومن ناحية أخرى عملت هذه السياسة على الازدهار الثقافي والفكري، وهذا الانقلاب الإيجابي الذي أحدثته حكومة ابن جهور أثارت دهشة مؤرخ الأندلس ابن حيان، وهو أحد من عاشوا وشاهدوا ذلك التحول، وكما كان للوزير ابن جهور موقفا خاصا من دعوة القاضي أبي القاسم بن عباد متملك إشبيلية بظهور الخليفة هشام المؤيد في إشبيلية وكان ذلك سنة ربعمائة وست وعشرين من الهجرة، وذلك ليدحض دعوة يحيى بن علي الحمودي في الخلافة من ناحية وليكسب الشرعية السياسية لحكم البلاد من ناحية أخرى.

فبعد أن أخذ القاضي ابن عباد البيعة لهشام من أهل إشبيلية وأعيانها، بعث بالكتب إلى أنحاء الأندلس لأخذ البيعة للخليفة الشرعي للبلاد، فلم يعترف به أحد سوى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، والمُوفق العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، وصاحب طرطوشة، أما الوزير أبو الحزم بن جهور فإنه أرسل الرسل ليتبين حقيقة الأمر، ولما ظهر له كذبها رفض هذا الادعاء إلا أن أهل قرطبة مالت نفوسهم إلى الخليفة هشام المؤيد، وكادت تقوم ثورة ضد ابن جهور، فزور الشهادة فصحت عنده الشهادة به، فبايعه وخطب له لكن بيعته كانت لغرض الدنيا ودفع دعوى الحموديين في الخلافة، ومطامعهم في أملاكها على نحو ما أراد ابن عباد، غير أن ابن جهور تراجع عن طاعته، خاصة أن القاضي ابن عباد طلب منه أن يدخل في طاعته باسم الخليفة هشام، فرفض ابن جهور وأعلن تبرؤه من دعوته، وكانت سياسة الوزير أبي الحزم بن جهور.

سببا مباشرا في إقرار السلام والأمان والازدهار في قرطبة وهذا ما جعلها موضع ثقة ملوك الطوائف الأخرى في بلاد الأندلس، وكانت الهيبة ورجاحة العقل صفتين تميز بهما الوزير ابن جهور، وهذا ما جعله موضع الوسيط العدل لفض المنازعات والخصومات بين الأمراء المتنازعين، فحين كاد الصراع أن يحتدم بين المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية والمظفر بن الأفطس صاحب بطليوس، حيث هاجم المعتضد بن عباد مدينة لبلة الواقعة غربي إشبيلية، فاستغاث صاحبها ابن يحيى بالمظفر بن الأفطس لنجدته، فتحرك له، وأرسل جماعة من البربر لمهاجمة إشبيلية، وأرسل الوزير ابن جهور رسله لينذرهم من رحى فتنة تعصف ببلاد الأندلس، ويدعوهم إلى السلم وفض النزاع، وهي السياسة نفسها التي اتبعها ابنه أبو الوليد محمد بن جهور بين المعتضد بن عباد والمظفر بن الأفطس كذلك، وكان لهذا النصح المتكرر من الوزير جهور.

وابنه أبي الوليد محمد أثر في إنقاذ الأندلس من فتنة هوجاء عاصفة، وهكذا عاشت قرطبة في ظل حكومة الجماعة آمنة من الفتنة، فضلا عن ذلك الازدهار الاقتصادي والأمن السياسي، وظل الوزير ابن جهور حاكما لقرطبة حتى وافته المنية في شهر صفر، وقيل في شهر المحرم سنة ربعمائة وخمس وثلاثين من الهجرة، وقد أجمع أهل قرطبة على تقديم ابنه أبي الوليد محمد بن جهور حاكما عليهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى