مقال

الدكروري يكتب عن الإمام الحلاج ” جزء 5″

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الإمام الحلاج ” جزء 5″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وأمضى الحلاج فترة شبابه في واسط التي كانت تعتبر معقل الفكر السني وتعلم فيها على المذهب الحنبلي، وتشير بعض الدراسات إلى أنه شحذ هناك عربيته وأصبح عربيا كاملا لم يزل يحتفظ ببعض الموروث الفارسي من طفولته الذي نظمه لاحقا بالعربية، وتزوج الحلاج من ابنة أبي يعقوب الأقطع البصري الذي كان بدوره من تلامذة المتصوف ذائع الصيت الجنيد البغدادي وأحد أفراد عائلة من الكتاب الإيرانيين من الأحواز، وقد كان هذا هو الزواج الوحيد للحلاج ورزق فيه أربعة أبناء وابنة واحدة، وأما من حيث ديانة الحلاج ومعتقداته وطائفته الأصلية ، فقد ولد لعائلة مسلمة، ونشأ الحلاج في العراق، ثم تنقل بين عدة مدن وولايات، منها الهند، وقضى فترات في مكة، معتزلا في الحرم المكي، حيث عرف الناس عنه أنه إذا جلس لا يغير جلسته أو موقعه في الليل أو في النهار، في الحر والبرد، كما عُرف بقلة طعامه، وزهده في كل شيء.

 

وكان له مريدون يتبعونه، يحفظون عنه، واصطدم بأحد المشايخ المتمسكين بالنقل والنص، هو الجنيد البغدادي، الذي لم يكن راضيا عن فكر الحلاج، وفلسفته، فكان أن قال له ذات جدال أي خشبة ستفسدها، كناية عن خشب الصليب، لكن الجنيد مات قبل أن يشهد نبوءته قد تحققت بصلب الحلاج، وعرض الحلاج للمحاكمة، بتهمة الزندقة والكفر، حيث جادله الفقهاء والقضاة في آرائه، حتى وصل أمره، إلى يد الخليفة المقتدر بالله عن طريق وزيره حامد بن العباس، فوافق الخليفة على إهدار دمه، وصادق على حكم إعدامه، فتم إعدامه بطريقة دموية، حيث أراد وزير الخليفة، أن يجعل منه عبرة، لكل الصوفيين، فلاحق الوزير حامد أتباع الحلاج وأصدقاءه، فمن لم يعد عن مذهب الحلاج دُقّ عنقه، وقد ذكرت هذه التفاصيل في الكامل لابن أثير، وتاريخ مختصر الدول لابن العبري، والتنبيه والإشراف للمسعودي، والمنتظم لابن الجوزي.

 

وكما ان للحلاج قصائد كثيرة، أغلبها في العشق الإلهي والتصوف، كما للغته مميزات خاصة تتسق مع لغة الصوفية عند اللاحقين، كابن الفارض والجيلاني من حيث التعبير الرقيق، وتمجيد الآلام في سبيل العشق الكبير، كما عبر في شعره عن فلسفته الوجودية أن الله في كل مكان، وتعتبر قصائد الحلاج، من القصائد التي تطرب سامعها، حاله حال أغلب شعراء الصوفية، ما حدى بالكثيرين من أهل الإنشاد الصوفي إلى استخدام كلماته، كما لجأ لها كبار الملحنين، أمثال مارسيل خليفة في قصيدة يا نسيم الريح، والموسيقار المصري عمر خيرت في قصيدة والله ما طلعت شمس ولا غربت، كما ألهم الحلاج الكثيرين بشعره وحياته، منهم الكاتب صلاح عبد الصبور في مسرحيته مأساة الحلاج، والمستشرق الفرنسي لويس ماسنيون، مؤلف كتاب آلام الحلاج، فضلا عن استخدام قصته المؤلمة، في الاستعارة الشعرية والأدبية.

 

وكان الحلاج ممن يرى التصوف جهادا متواصلا للنفس، بالابتعاد بها عن متع الدنيا وتهذيبها بالجوع والسهر، وتحمل عذابات مجاهدة أهل الجور، وبث روح الثورة ضد الظلم والطغيان ويؤكد اتصاله بالزنج والقرامطة ذلك، وهما من الحركات الثورية المعروفة في عصره وكان أن دخل بعض أمراء الحكم تحت قيادته الروحية، وكتب الحلاج لهم بعض الرسائل في الأخلاق السياسية، ثم كان أن دالت دولة هؤلاء الأمراء بتغلب أعدائهم عليهم، فألقي القبض عليه وكانت نفسه قد تاقت للشهادة، ودامت محاكمة الحلاج تسع سنوات قضاها في السجن يعظ السجناء، ويحرر بعض كتاباته وكان مما أخذ عليه أيضا نظريته في تقديس الأولياء التي عدوها ضربا من الشرك، وبعض أقواله التي حملوها على محمل التجديف، وفي السادس والعشرين من شهر مارس عام تسعمائة واثنين وعشرين للميلاد تم إخراج الحلاج من محبسه وجلد جلدا شديدا.

 

ثم صُلب حيا حتى فاضت روحه إلى بارئها وفي اليوم التالي قطع رأسه وأحرق جثمانه، ونثر رماده في نهر دجلة، وقيل أن بعض تلاميذه احتفظوا برأسه، ومن المعروف أن القاضي أبو عمر المالكي هو من حكم بقتل الحلاج، بعد أن رأى كفره ومروقه وتماديه في الضلال على حد زعمه وقد أمر الخليفة بإنفاذ الحكم، وعلى الرغم من أن الحلاج لم يعد نفسه من الشعراء، إلا أن ديوانه من أبدع دواوين الشعر العربي، ويضم الديوان نصوصا جمعها تلاميذه، وهي أشعار ومناجايات وأخبار من كتاب الطواسين، وثمة نصوص أخرى حررها تلاميذه تزودنا ببعض أشعار ونصوص نثرية مفقودة للحلاج، ومنها حكاية الكرماني أو التقييد، وفي واسط تعلم الحلاج النحو والقرآن الكريم على أيدي المحدثين الحنابلة، إلا أنه وعندما بلغ السادسة عشر من عمره ترك البيئة المحافظة التي درس فيها وانطلق إلى تستر، وهي مدينة في خوزستان.

 

وهناك تعرف على سهل التستري وأصبح صديقه المقرب وذلك في الأعوام ما بين عام ثماني مائة وثماني عشر، إلي عام ثماني مائة وست وتسعين من الميلاد، وكان سهل باحثا في علوم القرآن، كما كان متصوفا درس على طريقة تختلف عن الطريقة التقليدية المتبعة في واسط، حيث أنه ومنذ سن مبكرة عاش بطريقة المتنسكين فحافظ على الصيام وسافر إلى البصرة والكوفة ومكة بحثا عن الهداية، وعاش سهل عامين في عبدان التي كان معقل النساك بالقرب من نهر دجلة في العراق، وأصبحت على ما يبدو مصدر إلهامه الأول، أما في مدينته تستر، فقد ألف تفسيرا للقرآن الكريم يرتبط بمنهجه في التأمل، ويعتمد فيه فكرة كون الله ليس إلها منفردا عن مخلوقاته، بل أنه يمثل قدر البشر المحتوم الذي سيذوب فيه البشر، وأن على الإنسان أن يبحث في أغوار نفسه ليدرك الله سر النفس، وفي ذلك الوقت تتلمذ الحلاج على يدي سهل التستري في تستر لمدة عامين ثم افترقا لأسباب غير معروفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى