مقال

الدكروري يكتب عن العلاقة بين العقل والشريعة

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن العلاقة بين العقل والشريعة

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

إن العقل يساعد على فهم الشرع، لا كما يظن الناس أن الأحكام الشرعية قد تنعقد من عقولهم وأفهامهم، إنما هي مُحكمة من عند المشرع، حيث قال الله تعالى فى سورة الأحزاب ” وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا” وكما صح عن علي رضي الله عنه أنه قال “لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه” فالمسألة فيها تسليم مطلق لما أراد الله ورسوله، فالطاعة هي الامتثال، حتى لو لم تفهم العقول حكمة الأوامر أو النواهي وعلتها، فالإيمان بما شرع الله والتسليم به ليس فيه كسر للعقل وتحجيم لقدرته كما يدعى بل هذا من الفطرة السوية التي فطر عليها ابن آدم، فتأمل معي كلام العلامة ابن الجوزي “وهل يشك ذو عقل في وجود صانع؟ فإن الإنسان لو مر بقاع ليس فيه بنيان.

 

ثم عاد فرأى حائطا مبنيا، علم أنه لا بد له من بانى بناه، فهذا المهاد الموضوع، وهذا السقف المرفوع، وهذه الأبنية العجيبة، والقوانين الجارية على وجه الحكمة، أما تدل على صانع؟ وما أحسن ما قال بعض العرب إن البعرة تدل على البعير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على اللطيف الخبير؟ ثم لو تأمل الإنسان نفسه، لكفت دليلا، ولشفت غليلا، فإن في هذا الجسد من الحكم ما لا يسع ذكره في كتاب” إذن فالعقل آمن بوجود الخالق العظيم دون أن يراه، وقد دل كل شيء في الكون عليه، فقد قال الله تعالى فى سورة الأنعام ” لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير” فالكثير من النظريات العلمية التي تم برهنتها، لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، وإنما يمكن الاستدلال عليها بنتائجها أو آثارها، وقد أنكرها العقل طويلا، فهل ترى العين جاذبية الأرض التي تجذب إليها كل الأجسام؟ لا، ولكن يمكن رؤية الأشياء.

 

وهي تسقط على الأرض، وهل ترى العين الروح التي تسكن في الأجسام الحية، فتوجد الفرق بين الحي والميت؟ لا، وهل ترى العين أصلا العقل الذي يفرق بين العاقل والمجذوب؟ لا، وهل تستطيع العين أن ترى القوى التي يجذب بها المغناطيس قطعة الحديد؟ والجواب حتما هو لا، فإن من أعظم نعم الله عز وجل على الإنسان العقل، ولو أسلم الإنسان قياده لعقله لدله على الحق ولقاده إلى بر الأمان، ولكن العقل في صراع دائم مع الغرائز والأهواء، والغرائز الجسدية كالطعام والشراب والشهوة والكسل، وأما الأهواء كالظلم والسيطرة والرئاسة والشهرة، وتزداد شراسة هذا الصراع عندما تتحول الغرائز العادية إلى إدمان وعادات سيئة، والأهواء إلى طغيان وتجبر وأماني وأوهام وتسويف ونسيان، والحل هو تحكيم العقل، وتنظيم الغرائز، ومدافعة الأهواء، والمشكلة أن الصلاح والبناء محفوف بالمكاره والصعوبات.

 

والفساد والهدم محفوف بالشهوات، فالصلاح بناء وتتكاتف عوامل الحت والتعرية على هدمه فيحتاج لترميم وحماية دائمة، والفساد حفرة تجمع الأوساخ والأدران وتحتاج إلى تنظيف وإفراغ بشكل دائم وإلا امتلأت وتفاقمت، وأفضل ما يفعله الإنسان لنصرة عقله أمران، هما بناء عادات جديدة صالحة ومفيدة والصبر عليها ورعايتها، وأخطر ما يواجهه في هذا البناء تردده في المتابعة وقوله لنفسه دعيني أترك هذا الأمر مرة واحدة فقط، فإذا ضعف وترك الأمر مرة واحدة، انتكس وأخفق في بناء عادته الحسنة، ومكافحة عاداته السيئة وتفكيكها وخاصة ما وصل منها إلى درجة الإدمان، وأخطر ما يواجهه في هذه المكافحة تردده في الإقلاع عن العادة وقوله لنفسه دعيني أفعل هذا الأمر مرة أخيرة، فإذا ضعف وفعلها مرة أخرى، انتكس وعادت حليمة لعادتها القديمة، وما أصدق قول ابن القيم في كتاب الفوائد في وصف السلوك الإنساني هو دافع الخطرة.

 

فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمّة، فإن لم تدافعها صارت فعلا، فإن لم تتداركه بضده صار عادة فيصعب عليك تركها، والخاطرة السيئة هي شرارة الإخفاق الأولى، فالقلب لوح والخواطر نقوش تنقش عليه، فمن دافع خواطره السيئة ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرا إلى الإخفاق والهلكات، ويقول الطبيب الفرنسي موريس بوكايل، بعد إجراء مقارنة علمية بين الأديان السماوية والعلم”ولا عجب في هذا إذا عرفنا أن الإسلام قد اعتبر دائما أن الدين والعلم توءمان متلازمان، فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءا لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام، وأن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية، تلك التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوروبا” فهذه شهادة حق لإعلاء الإسلام لشأن العقل، بوضعه في المكان الصحيح عن طريق العلم والعمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى