مقال

كتاب بعنوان حرية الفكر التي نكرهها

جريدة الاضواء

كتاب بعنوان حرية الفكر التي نكرهها
كتب / يوسف المقوسي

مؤلف هذا الكتاب أنتوني لويس حاصل على جائزة بوليتزر مرتين، ويعد أحد كبار الصحفيين الأمريكيين في العقود الخمسة الماضية. أصبح المؤلف أحد أشهر الباحثين في مجال القانون الأمريكي بعد تغطياته للشؤون القانونية لصحيفة نيويورك تايمز، التي ظل يعمل لها كاتب عمود طوال الثلاثين عاما الماضية، بالإضافة إلى كتبه في هذا المجال، التي حققت أفضل المبيعات في سنوات مختلفة.

وفي هذا الكتاب الجديد الذي صدر للمؤلف بعنوان (حرية الفكر التي نكرهها) يستعرض الكاتب التاريخ الطويل لحرية التعبير في الولايات المتحدة، مشيرا في أماكن مختلفة من الكتاب إلى أن هذا التاريخ كان مضطربا، وأن الرؤساء الأمريكيين منذ عهد جون آدمز وحتى جورج بوش كانوا يتعاملون مع الأزمات، وأثناء فترات الخوف، باتخاذ تدابير مجحفة كانت تؤدي إلى حجب الآراء المعارضة وقمع التعبير عن الآراء التي كانوا يرونها غير مرغوبة شعبيا.

يبدأ لويس كتابه بالحديث عما عرف تاريخيا باسم (التعديل الأول) للدستور الأمريكي، الذي يمنع الكونغرس من وضع القوانين المقيدة لحرية التعبير أو تحد من حرية وسائل الإعلام. وبعد تناول الأهداف التي حدت بالمشرعين إلى إدراج نص التعديل في الدستور الأمريكي بشيء من التفصيل، يلجأ المؤلف إلى جيمس ماديسون، الأب المؤسس للدستور الأمريكي، مقتبسا منه عدة مرات ما يدعم آراءه تجاه حرية التعبير، حيث كان ماديسون يؤمن بأن حرية الإعلام، وإطلاع الجمهور على الحقائق، من شأنهما تشكيل رقابة على سلطة الحكومة. ويرى لويس أن هذا المبدأ الذي عرف باسم (الماديسونية)، الذي يجعل الحكومة مسؤولة عن أفعالها، يحث الأمريكيين على الإحساس بالخطر عندما تحاول أي من الحكومات إيقاف صحيفة ما عن توضيح الحقائق الكامنة وراء حرب مرفوضة شعبيا مثلا، أو اتهام صحيفة ما بتعريض الأمن القومي للخطر بإفشاء الأسرار أو الاستراق غير القانوني.

ويقول لويس إن الجمهور والإعلام يصبحان بكل بساطة مجرد جوقة من المؤيدين للحكومة في حالة انعدام الحوار المفتوح الذي يطرح كافة القضايا على مائدة البحث، مشيرا إلى الأسطورة التي تقول إن الإمبراطور إذا ما خرج على الناس عاريا، لن يكون لدى أي شخص الرغبة في الإشارة إلى هذه الحقيقة المرة. وهو في الواقع يدين الإعلام الذي استسلم تماما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث بدا أي انتقاد يوجه للرئيس في أجواء الخوف التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر نوعا من عدم الوطنية كما يقول. وهو يؤكد في هذا الصدد أن الإعلام إذا لم يمارس دوره الرقابي بفعالية فإن الجمهور يكون عرضة للإيهام بأن حربا مثل الحرب العراقية له ما يبرره.

وكما هو واضح من الاستعراض التاريخي لحرية التعبير الذي أجراه لويس فإن الخوف من (الشيوعية والإرهاب والأعداء الخارجيين) استخدم كثيرا في التاريخ الأمريكي لتبرير الإجراءات التعسفية ضد حرية التعبير. ففي عام 1798م اعتبر الرئيس جون آدامز أي (كتابة حاقدة) ضد الحكومة جريمة يعاقب عليها القانون. ولم يكن غريبا أن طبق القانون على المعارضين السياسيين لآدمز من الحزب الجمهوري. وقد رد الجمهور الأمريكي على موقف أدمز هذا بالتصويت ضده، وإبعاده عن الرئاسة، وإحلال المرشح الجمهوري توماس جيفرسون مكانه في العام 1800م.

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وقع الرئيس ودرو ويلسون تشريعا يقضي بأن كل من يتفوه بعبارة مهما كانت بساطتها، ضد مشروع القانون نفسه، أو ضد الحكومة، يعد مرتكبا جريمة يعاقب عليها بموجب التشريع. وشهدت خمسينيات القرن العشرين، التي عرفت بفترة المكارثية، شتى أشكال الاضطهاد الرسمية وغير الرسمية بناء على أوهام الخوف من الشيوعية.

ويقول المؤلف إن اضطهاد المعارضين الذي ساد في أثناء الحرب العالمية الأولى هو الذي حدا باثنين من قضاة المحكمة العليا، هما أوليفر وينديل هولمز ولويس برانديس، إلى البدء في صياغة معنى (التعديل الأول). ويتابع المؤلف بعد ذلك تطور حرية التعبير في القانون الأمريكي بمهارة من هو ملم بهذا التاريخ بسبب انشغاله بالكتابة حوله طوال العقود الماضية. ففي القضية التي عرفت إبان الحرب العالمية الأولى بقضية (شينك ضد الولايات المتحدة) أبان القاضي هولمز أن حرية التعبير يجب حمايتها إلا إذا نتج عنها (خطر حقيقي ومباشر).

ويمضي لويس في استقصاء أصعب الأسئلة على الإطلاق: كيف يمكننا الحفاظ على التوازن بين حقوق حرية التعبير عندما تتعارض مع القيم الأخرى، مثل الأمن القومي وحق الخصوصية وحق المحاكمة العادلة؟ ففي قضية نيويورك تايمز ضد الولايات المتحدة في عام 1971م يرى المؤلف أن المحكمة العليا كانت محقة عندما حكمت لصالح الصحف التي نشرت وثائق سرية عن حرب فيتنام. ولكن لويس يحتفظ بقدر كبير من الشك تجاه الصحف نفسها، مؤكدا أن التدخل المستمر للإعلام في شؤون الناس الشخصية لا يستحق أن يعطى نفس الحماية التي يحظى بها متابعة الإعلام لمواقف الحكومة، بمعنى أن التعديل الأول يمكن توظيفها أكثر بتقصي الفساد في البنتاجون، وليس بعرض صور زواج الممثل توم كروز مثلا.

ويتحسر لويس على ضياع الخصوصية في السنوات الأخيرة بفعل التقنيات الحديثة مثل كاميرات الهاتف الجوال والإنترنت. وهو يشعر بتذمر عام في أوساط الجمهور فيما يتعلق بالخصوصية، حيث يقول: في الوقت الحالي من الصعب أن نتخيل تدخلا في خصوصية الناس أشد فظاعة من التأثير على إحساسهم الشخصي بالكرامة، وكأنه هنا يقف مؤيدا لدفاع القاضي براندي عن حق الشخص في أن يترك لوحده.

ويمزج لويس بين الفهم العميق لسلطة (التعديل الأول) للدستور وتاريخه من ناحية وأسلوبه المميز الذي طالما أعجب به القراء من ناحية أخرى. وفي عصرنا الحالي الذي تمزقه الحروب، وأصبح الرأي الآخر والحوار بذهنية منفتحة يعانيان فيه الكثير من المعضلات، يجبرنا لويس على تذكر الوظيفة الأساسية التي تؤديها حرية التعبير في الحكومات الديمقراطية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى