مقال

الوطن العربي يقف على مفترق طرق

جريدة الاضواء

الوطن العربي يقف على مفترق طرق

كتب / يوسف المقوسي

نقف، العالم والإقليم ومصر، على مقربة من عصر جديد في العلاقات الدولية. أبواب هذا العصر غير مشرعة تمامًا، واللاعبون في غالبيتهم متوجسون سنوات صعبة وعمل شاق وحروب صغرى وعظمى محتملة. بعض معالم هذا العصر ما تزال ضبابية. الواضح لنا منها ليس إلا ما تبقى من معالم عصر ينقضي. من هذه المعالم انحدار مكانة ونفوذ القطب الأحادي وبخاصة منذ أن جرته التطورات إلى حروب قيادة أو وكالة امتحنت هذه المكانة وذاك النفوذ. منها أيضًا، وأقصد من هذه المعالم المتبقية، توالي حدوث أزمات مالية واقتصادية عالمية حادة، ومنها وبوضوح أشد العودة من سياسات العولمة ومبادئها وقيمها إلى السياسات الحمائية التي سبق أن تسببت في حروب عظمى، ومنها خروج مئات الألوف من المواطنين إلى الشوارع في دول غربية احتجاجًا على تدهور في سياسات الرفاه والعدالة الاجتماعية ودليلاً قويًا على أزمة مستحكمة في النظام الديموقراطي المهيمن في الغرب، ومنها التجارب الأليمة التي تمر فيها دول ناشئة أو حديثة الاستقلال خلال محاولتها استكمال عملية التحرر من التبعية وفك الأغلال التي تربطها بدول الاستعمار القديم وفي محاولتها إشباع الرغبة في التكتل بالدول الشبيهة والارتباط الناعم والمرن بالصين كقطب جديد في النظام الدولي لا سوابق له في العلاقات الدولية تحكم عليه أو يحتكم لها.

نسق النظام الدولي الذي عرفناه يرحل بصعوبة شديدة. عشنا في ظله ما يقارب ثلاثة أرباع قرن. يرحل واللاعب القائد فيه عاقد العزم على مقاومة الرحيل بكل ما أوتي من قوة.. راح على سبيل المثال يستنهض نوايا العسكرة في كل من اليابان وألمانيا ويدعو حلفاءه الأصغر في دول حلف الناتو إلى زيادة الإنفاق العسكري وتحديث منظومة التسلح. راح أيضًا يستعيد قواعد عسكرية كانت له في الفلبين ودول أخرى كان قد تخلى عنها عقب انتهاء الحرب الباردة.

هنا في ساحتنا، الساحة العربية، ازداد الميل المتدرج نحو الاهتمام بهوامشنا شرق الأوسطية. اتسم ميلنا هذا بالارتباك والانقسام حيال إخراجه إلى الواقع. فبين امتناع بعض الدول العربية عن التقدم نحو علاقات طيبة مع إيران وملاقاتها في منتصف الطريق المؤدي إلى استئناف العلاقات أقبلت دول بحماسة وعدم تردد. هذا السباق “الساكت” في الإقليم، مصحوبًا باختراق سياسي صيني لافت للنظر والاهتمام، انتهى إلى تأكيد فرضية نشأة توازن قوة جديد داخل النظام الإقليمي العربي، وفي الوقت نفسه إلى تأكيد حقيقة أن قمة النظام الدولي تشهد تحولاً مثيرًا في تراتيب القطبية.

حدث أيضًا أن إيران لم تكن اللاعب الوحيد في إقليم الشرق الأوسط الذي قرر امتحان لياقته الإقليمية؛ سبقتها إلى هذا الامتحان كل من دولة الإمارات والمملكة السعودية من الساحة العربية، وتركيا وإسرائيل من منطقة الجوار. يلفت النظر بصفة خاصة اللاعب الإسرائيلي الذي قرر انتهاز فرصة انشغال الأطراف العظمى بالتحولات على مستوى النظام الدولي، وانشغال الساحة العربية بثمار وعواقب نشأة توازن قوة جديد في النظام الإقليمي العربي، ليتحرك بحماسة وسرعة على طريق الاقتراب من “الحل النهائي” لقضيته مع العرب وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط.

أتصور أنه بالنظر إلى هذه الظروف، صار يتعين على الدبلوماسية المصرية أن تمتحن بدورها لياقتها في التعامل مع ظروف أغلبها لم يسبق لها مواجهته مجتمعًا في لحظة واحدة. بالتأكيد لن ينفع أي من أساليب الإنكار أو التجاهل أو غض الطرف أو شراء الوقت، وكلها مع غيرها أساليب استخدمتها قيادات مصرية في أوقات كانت القضايا فيها تتعقد والإمكانات تضعف والرؤى تتضارب والضباب يتكثف.
للدبلوماسية المصرية تجارب وخبرات تشكل في مجملها منظومة إمكانات كان يمكن حشدها وتحديثها وما زال ممكنًا. مثلاً خبرتها بالحياد وعدم الانحياز تجد فرصتها الآن في هذا الزخم غير المسبوق في اندفاعه نحو تبني الحياد أو تجديد الاعتناق به. هذه الخبرة وما أفرزته من تجارب عملية تجعل الدبلوماسية المصرية مرغوبة، إن لم تجعلها ضرورة، في هذه المرحلة الوليدة على الصعيدين؛ صعيد التحول في النظام الدولي، وصعيد التوازن الجديد للقوة في النظام العربي. تجعلها ضرورة أيضًا في ظل بحث الصين عن خبرات وتجارب في العالم النامي، تعزز بها عقيدتها الرافضة لهيمنة القطب الواحد وسياساته، ورافضة أيضًا لذهنية الحرب الباردة وسباقات التسلح النووي.

لا شك في أننا نقف عند مفترق طرق. يرى البعض منا بوادر صحوة من على البعد تتقدم. يرى البعض الآخر على البعد فلولاً من تجارب ونوايا اختارت الرحيل أو الاستسلام. أيدينا وعزائمنا ممتدة لتقابل بالتشجيع والأفكار أهل الصحوة، ولكن مهما حاولنا واجتهدنا فلن نلحق في الوقت المتبقي لنا بمن رحلوا أو بمن استسلموا. دعونا على كل حال نحاول ونجتهد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى