مقال

نظرة تأمل مع رمضان شهر العزة والنصر ” الجزء السابع

 

إعداد / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء السابع مع رمضان شهر العزة والنصر، وقد توقفنا عندما اتجه صلاح الدين الأيوبى إلى القدس، ولكن الصليبيين تحصنوا بداخلها، فاتخذ صلاح الدين جبل الزيتون مركزا لجيوشه، ورمى أسوار المدينة بالحجارة عن طريق المجانيق التي أمامها، ففر المدافعون، وتقدم المسلمون ينقبون الأسوار، فاستسلم الفرنجة، وطلبوا الصلح، فقبل صلاح الدين، واتفق الطرفان على أن يخرج الفرنجة سالمين من المدينة على أن يدفع الرجل عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والصبي دينارين، ووفّى المسلمون لهم بهذا الوعد، وكان ضمن من خرجوا البطريرك الأكبر يحمل أموال البِيع وهى الكنائس، وذخائر المساجد التى كان الصليبيون قد غنموها في فتوحاتهم، ويُروى أن مجموعة من النبيلات والأميرات قلن لصلاح الدين وهن يغادرن بيت المقدس “أيها السلطان، لقد مننت علينا بالحياة، ولكن كيف نعيش وأزواجنا وأولادنا في أسرك؟ وإذا كنا ندع هذه البلاد إلى الأبد، فمن سيكون معنا من الرجال للحماية والسعي والمعاش؟

 

أيها السلطان، هب لنا أزواجنا وأولادنا، فإنك إن لم تفعل أسلمتنا للعار والجوع” فتأثر صلاح الدين بذلك، فوهب لهن رجالهن” رحمك الله يا صلاح الدين، فقد كنت مثالا للرحمة والعفو وحسن الخلق، وكنت مثالا حسنا لمبادئ الحضارة الإسلامية وعظمة الإسلام، وإن مَن عَلم حقارة الدنيا وسرعة فنائها، لم يأسف على ما فاته منها، ومَن عَلم حقيقة الآخرة وبقاء نعيمها، حرص على ألا يفوته شيء من فرصها، أما وقد مضى من رمضان ثمانية أيام، فإن على المسلم أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة جادة، يسأل فيها نفسه ماذا قدم فيما مضى؟ وعلام هو عازم فيما بقى؟ هل وعى الدرس الرمضانى الكبير فانتصر على نفسه، وقتل شهواتها، وحطم أصنامها؟ هل حقق العبودية التامة لربه امتثالا واجتنابا؟ وإن على المسلم وقد مضى ثمانية أيام من شهره، وقدم فيه ما قدم، أن يحذر من آفة طالما أصابت السالكين، فجعلت استفادة بعضهم من مواسمِ العبادة ليست بتلك، تلكم هي آفة الفتور بعد النشاط، والتراخى بعد الشدة، والتى مِن البلاء أنها لا تصيب صاحبها.

 

إلا فى ختام الشهر وليالى العشر، وبدلا من الازدياد والتزود بعد التعود، تخور القوى، وتفتر العزائم، ويظهر الكلال، ويدب إلى النفوس الملال، وما هكذا ينبغى أن يكون المؤمن، كيف وقد قال الله تعالى فى سورة آل عمران ” يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون” فطريق الفلاح فيه من الطول ما فيه، ويعترى سالكه من التعب ما يعتريه، وقد حُفت الجنة بالمكاره، ومَن بعُدت عليه الشقة، واستهوته الأعراض القريبة، تقاصرت همته دون اتباع الهادى، وتخلف عن ركب الناجين، ومن ثم كان لا بد من الصبر والمصابرة والمرابطة، وإتقان العمل، والإحسان والمجاهدة، وبذل الجهد، وتقوى الله قدر الاستطاعة لعل الفلاح أن يكون خاتمة العبد، وثمرة عمله، ولعل ربه أن يرزقَه مِن معيته ما يتقوى به على طاعته، ويهتدى به إلى سبل مرضاته، فقال تعالى كما جاء فى سورة النحل “إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون” وقال تعالى فى سورة العنكبوت” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”

 

وكان من إنتصارات شهر رمضان هى معركة عين جالوت، حيث انتصر المسلمين على التتار، بين المسلمين بقيادة سيف الدين قطز والمغول، وذلك فى عهد الدولة المملوكية قد استطاع سيف الدين قطز، والظاهر بيبرس، صد الغزو المغولى الذى اجتاح أجزاء واسعة من العالم الإسلامي في معركة عين جالوت قرب الناصرة فكانت واحدة من أهم وأشهر المعارك الإسلامية، وفى شهر رمضان من عام ستمائة وثمانية وخمسين من الهجرة، خرج سيف الدين قطز من مصر على رأس الجيوش المصرية، ومن انضم إليه من الجنود الشاميين وغيرهم، وترك نائبا عنه فى مصر هو الأتابك فارس الدين أقطاى المستعرب، وأمر الأمير بيبرس البندقدارى، أن يتقدم بطليعة من الجنود، ليكشف أخبار المغول، فسار حتى لقى طلائع لهم في غزة، فاشتبك معهم، وألحق بهم هزيمة كان لها أثر فى نفوس جنوده، وأزالت الهيبةَ من نفوسهم، ثم تقدم السلطان قطز بجيوشه إلى غزة، فأقام بها يوما واحدا، ثم رحل عن طريق الساحل إلى عكا.

 

وكانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين، فعرضوا عليه مساعدتهم، لكنه رفض، واكتفى منهم بالوقوف على الحياد، وإلا قاتلهم قبل أن يقابل المغول، ثم وافى السلطان قطز، الأمير بيبرس، عند عين جالوت، بين بيسان، ونابلس، وكان الجيش المغولى يقوده كيتوبوقا، أو كتبغا بعد أن غادر هولاكو الشام إلى بلاده للاشتراك فى اختيار خاقان جديد للمغول، وجمع القائد الجديد قواته التى كانت قد تفرقت ببلاد الشام فى جيش موحد، وعسكر بهم في عين جالوت، وما كاد يشرق صباح يوم الجمعة يوم الخامس والعشرين من رمضان عام ستمائة وثمانى وخمسين حتى اشتبك الفريقان، وانقضت قوات المغول كالموج الهائل على طلائع الجيوش المصرية حتى تحقق نصر خاطف، وتمكنت بالفعل من تشتيت ميسرة الجيش، غير أن السلطان قطز، ثبت كالجبال، وصرخ بأعلى صوته واإسلاماه، فعمت صرخته أرجاء المكان، وتوافدت حوله قواته، وانقضوا على الجيش المغولى الذى فوجئ بهذا الثبات والصبر فى القتال.

 

وهو الذى اعتاد على النصر الخاطف، فانهارت عزائمه، وارتد مذعورا لا يكاد يصدق ما يجرى فى ميدان القتال، وفروا هاربين إلى التلال المجاورة بعد أن رأوا قائدهم كيتوبوقا يسقط صريعا فى أرض المعركة، ولم يكتف المسلمون بهذا النصر، بل تتبعوا الفلول الهاربة من جيش المغول التى تجمعت في بيسان القريبة من عين جالوت، واشتبكوا معها فى لقاء حاسم، واشتدت وطأة القتال، وتأرجح النصر، وعاد السلطان قطز يصيح صيحة عظيمة سمعها معظم جيشه وهو يقول واإسلاماه، ثلاث مرات ويتضرع إلى الله قائلا “يا الله انصر عبدك قطز” وما هي إلا ساعة حتى مالت كفة النصر إلى المسلمين، وانتهى الأمر بهزيمة مدوية للمغول لأول مرة منذ جنكيز خان، ثم نزل السلطان عن جواده، ومرّغ وجهه على أرض المعركة وقبّلها، وصلى ركعتين شكرا لله، ثم إن رمضان لم يكن لدى أمة الإسلام فى يوم من الأيام شهر كسل، ولا موسم بطالة، ولا عرف الأسلاف فيه الخمول، ولا الضعف ولا الوهن، ولا استسلموا فيه ولا استكانوا.

 

ذلكم أن هذا الشهر الكريم كان مولد الإسلام، ومشرق نوره، وفيه بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وليخرج به الناس من ظلمات الشرك وأسر الهوى، إلى نور الإيمان وسعة الهدى، ويشهد التاريخ الإسلامى المجيد أن كثيرا من المعارك الفاصلة التى انتصر فيها المسلمون على أعدائهم، وأن عددا من تلك الفتوح التى فرقت بين الحق والباطل، وأن تحطيم أكبر الأصنام وإرغام أنوف ألد الأعداء، كان فى شهر رمضان، ألا فاتقوا الله وانصروه بتقديم ما يحبه ويرضاه على ما تحبون وتشتهون، انصروه بنصر الحق وأهله، بل قبل كل ذلك انتصروا على نفوسكم التى بين جنوبكم، انتصروا على شهواتكم وملذاتكم، حققوا العبوديةَ التامة لله سبحانه، والاستسلام له ظاهرا وباطنا، حطموا الأصنام التى فى الصدور، فإنه لا نصر للأمة ولا غلبة، ولا عز لها ولا تمكين إلا بأن ينتصر أفرادها على أعدائهم الداخليين ويهزموهم، من نفوسهم الأمّارة بالسوء، وشياطين الإنس والجن الذين لا يألونهم خبالا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى