مقال

الدكرورى يكتب عن حياة الرعيل الأول فى المدينة “جزء 3”

الدكرورى يكتب عن حياة الرعيل الأول فى المدينة “جزء 3”

بقلم/ محمــــد الدكـــــرورى

 

ونكمل الجزء الثالث مع حياة الرعيل الأول فى المدينة، فيكون قرار الجهاد مدروسا من جميع جوانبه ومآلاته دراسة علمية وواقعية فيها الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، بلا جبن أو خور أو ضعف، وبلا سطحية أو غوغائية أو عاطفة خرقاء لا يحكمها خطام الحكمة أو زمام التعقل، وهم مثابون فيما يجتهدون فيه من ذلك على كل حال، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد، وإن قصروا فعليهم الإثم، وليس لأحد أن يتورك عليهم فى ذلك إلا بالنصيحة والمشورة إن كان من أهلها، فإن لم يكن من أهلها فليس له أن يتكلم فيما لا يحسن، ولا أن يبادر بالجهاد بنفسه وإلا عُدّ ذلك افتئاتا على الإمام.

 

وقد يكون ضرر خروجه أكثر من نفعه فيبوء بإثم ما يجره فعله من المفاسد، ولو كلف مجموع الناس بالخروج فُرادى من غير استنفارهم من قبل ولى الأمر لتعطلت مصالح الخلق واضطربت معايشهم، وقد قال تعالى فى كتابه الكريم من سورة التوبه “وما كان المؤمنون لينفروا كافة” ومع ما فى هذا التصرف مِن الوقوع فى الهلكة، وإهمال العواقب والمآلات، والتسبب فى تكالب الأمم على المسلمين، وإبادة خضرائهم، والولوج فى الفتن العمياء والنزاعات المهلكة بين المسلمين التى تفرزها قرارات القتال الفردية الهوجائية هذه، ومن المعلوم شرعا وعقلا وواقعا أن التشتت وانعدام الراية يُفقد القتال نظامه من ناحية، ويُذهب قيمه ونبله ويشوش على شرف غايته من ناحية أخرى، وإن الجهاد له أربع مراتب.

 

وهما جهاد النفس، والشيطان، والكفار والمنافقين، وأصحاب الظلم والبدع والمنكَرات، وأما عن جهاد النفس، فقد تكلم العلماء في نوعي الجهاد، الظاهر والباطن لأهمية النوعين خصوصا الباطن، وقد قال عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، لمن سأله عن الجهاد ” ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها ” وقال بقية بن الوليد ” اخبرنا إبراهيم بن ادهم حدثنا الثقة عن علي بن أبي طالب قال ” أول ما تنكرون من جهادكم جهادكم أنفسكم ” وروى سعد بن سنان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” ليس عدوك الذي إذا قتلته ادخلك الجنة، واذا قتلته كان لك نورا، اعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ” وقال أبو بكر الصديق لعمر حين استخلف ” إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك ”

 

فهذا الجهاد يحتاج أيضا إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه وحصل له النصر والظفر، وملك نفسه، فصار عزيزا ملكا، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك، غلب وقهر وأسر، وصار عبدا ذليلا أسيرا في يدي شيطانه وهواه، ويقول أبو محمد عبد الله بن أبي مرة في بهجة النفوس ” الجهاد الأصغر وهو جهاد العدو، وكذلك الأمر في الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، وقد أشار الله عز وجل فى كتابه الكريم لذلك بقوله “وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله” فمهما كبر الأمر جعل الفرج فيه أكبر، لأن أمر الشيطان والنفس أكبر، فجعل في الشيطان والظفر به نفس الملجأ كما أخبر عز وجل، وجعل في النصرة على النفس الأخذ في مجاهدتها على لسان العلم، فقال عز وجل “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا” .

 

وجعل سبب العون على مجاهدتها حقيقة الاستعانة به عز وجل بقوله تعالى “إياك نستعين” فجهاد النفس أربع مراتب أيضا إحداها، أن يجاهدها على تعلم الدين، وأن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وأن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله البينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله، وأن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله تعالى، وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله تعالى، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات، وأما عن جهاد الشيطان، فهو مرتبتان إحداهما، جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى