مقال

عفوا لقد نفذ عمركم ” جزء 4″

عفوا لقد نفذ عمركم ” جزء 4″

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

 

ونكمل الجزء الرابع مع عفوا لقد نفذ عمركم، وقال ثابت البناني رحمه الله “كنا نشهد جنازة فلا نرى إلا مطرقا باكيا ولا ندري من نعزي لكثرة البكاء وإنما كان بكاءهم على أنفسهم لا على الميت، فإذا حملت إلى القبور جنازة، فاعلم بأنك بعدها محمول، ولقد أعددنا لهذه الحياة واشتغلنا فيها بالملهيات وغرتنا المغريات عن الاستعداد للآخرة، وقيل أنه لما رجع الإمام علي رضي الله عنه من صفين أشرف على القبور ثم قال يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحشة، أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم، ثم التفت إلى أصحابه فقال أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى، فإن أمرا آخره الموت والمصير إلى هذه القبور.

 

لحقيق أن يزهد في أوله وإن أمر أوله القبور لحقيق أن يخاف آخره، وإن لكل إنسان في هذه الحياة أمان كثيرة ومتعددة، وتتفاوت هذه الأماني وتتباين وفقا لاعتبارات عديدة، منها البيئة التي يعيش فيها الفرد، والفكر الذي تربى عليه، والأقران الذين يحيطون به، فلو سألت إنسانا ما أمنيتك في هذه الحياة ؟ فإن كان من وسط فقير، وعاين الفقر وأحس بألمه واكتوى به، تمنى أن يعيش غنيا، وأن يملك العقارات والسيارات ليعيش منعما كما يتنعم غالب الناس، ولو قابلت مريضا طرحه المرض على الفراش، فشل حركته، وقيد حريته، ومنعه حتى من لذة الطعام والمنام، وسألته عن أمنيته؟ لرأيته يتمنى أن يعافى من مرضه، ولو أن يفتدي بماله كله، ولو سألت بعض الأغنياء عن أمنياتهم، لرأيتهم يتمنون مزيدا من الغنى، ليكونوا أغنى من فلان وعلان، وهكذا فالمقل لا يقنع.

 

والمكثر لا يشبع، وأماني الدنيا لا تنتهي، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال فيما رواه عنه أنس رضي الله عنه “لو أن لابن آدم واديا من ذهب، أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب” أي لا يزال ابن آدم حريصا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره، ومع هذه الأماني المتباينة لهؤلاء الناس، فإن الجميع تراهم يسعون ويكدحون طوال حياتهم، لتحويل أحلامهم وأمنياتهم إلى واقع، وقد يوفقهم الله تعالى إلى تحقيقها متى بذلوا أسباب ذلك، ولكن هناك فئة من الناس لا يمكنهم تحقيق أمنياتهم، ولا ينظر في طلباتهم، فمن هم يا ترى؟ ولماذا لا تحقق أمنياتهم؟ وهل يمكننا مساعدتهم أو تخفيف لوعاتهم؟ أما عن هذه الفئة التي لا يمكنهم تحقيق أمنياتهم، فهم ممن أصبحوا رهائن ذنوب لا يطلقون.

 

وغرباء سفر لا ينتظرون، إنهم الأموات ولا حول ولا قوة إلا بالله، فماذا يتمنى الأموات يا ترى؟ ومن يا ترى يستطيع أن يحدثنا عن أمنياتهم، وقد انقطع عنا خبرهم، واندرس ذكرهم؟ فإن هذه الفئة المنسية، عاينوا الجنة والنار، ورأوا ملائكة الله، وأصبح الغيب لديهم شهادة، وعرفوا حقيقة الدنيا والآخرة، وأيقنوا وهم في برزخهم أنهم سيبعثون ليوم عظيم، فهل يتمنون العودة إلى هذه الدنيا ليتمتعوا بالحياة ويحسوا بلذتها وطعمها؟ أو ليملكوا مزيدا من العقارات ويجوبوا الأرض سياحة ولهوا ؟ فإن أمنية الكثير من الناس في هذه الحياة لا تزيد على وظيفة مرموقة، وزوجة جميلة، ومركب هنيء، وبيت واسع، وأملاك وعقارات، وتمشيات وسهرات، وحضور ولائم وحفلات، أما الأموات، فماذا يريدون من دنيا رحلوا عنها، وانخدعوا بها، وعرفوا حقيقتها.

 

وخلفوها وراء ظهورهم بلا رجعة؟ وقيل دخل ابن زياد على عمر ابن عبد العزيز فقال يا أمير المؤمنين رأيناك وأنت بمكة قبل أن تتولى الخلافة في نعمة وصحة وفي عافية رغيده فما الذي غيرك فبكى عمر حتى كادت أضلاعه تختلف ثم قال كيف بك يا ابن زياد لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام، يوم أجرد عن الثياب وأوشى في التراب وأفارق الأصحاب وأترك الأحباب لو رأيتني بعد ثلاث والله لرأيت منظرا يسوءك، فما أفظع القبور وما أشد وحشتها وما أبعد غربتها فيا أيها الغافلون عنها ويا أيها الناسون للموت، المقصرون في عبادة الله وطاعته، المضيعون لحدود الله وأوامره المفتونون بالدنيا حلالها وحرامها المخدوعون ببريقها وسرابها الزائل زوروا القبور وتذكروا في تلك الديار الموحشة والبيوت المظلمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى