مقال

الدكروري يكتب عن الإمام القرطبي الأنصاري الخزرجي.

الدكروري يكتب عن الإمام القرطبي الأنصاري الخزرجي.

بقلم / محمـــد الدكـــرورى

 

إن العلماء هم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، فقد رفعهم الله بالعلم، وزينهم بالحلم، وبهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والضار من النافع، والحسن من القبيح، وهم أركان الشريعة وحماة العقيدة، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الضالين، فكم من طالب علم علموه، وتائه عن صراط الرشد أرشدوه، وحائر عن سبيل الله بصروه ودلوه، فالإمام القرطبى هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المفسر، وقد ولد في قرطبة فى أوائل القرن السابع الهجري وعاش بها، ثم انتقل إلى مصر حيث استقر بمُنية بني خصيب في شمال أسيوط، ويقال لها اليوم المنيا، وبقي فيها حتى توفي، وقيل عنه أنه كان إماما عالما غواصا من الغواصين على معاني الحديث.

 

حسن التصنيف، جيد النقل وقيل عنه هو العالم الإمام الجليل الفاضل الفقيه المفسّر والمحصّل، والمتقن، الكامل، وكان من عباد الله الصالحين، والعلماء العاملين، وقد أقبل القرطبي منذ صغره على العلوم الدينية والعربية إقبال المحب لها، والشغوف بها، ففي قرطبة تعلم العربية والشعر إلى جانب تعلمه القرآن الكريم، وتلقى بها ثقافة واسعة في الفقه والنحو والقراءات وغيرها على جماعة من العلماء المشهورين، وكان يعيش آنذاك في كنف أبيه ورعايته، وبقي كذلك حتى وفاة والده سنة ستمائه وسته وعشرين من الهجرة، وكان إلى جانب تلقيه العلم ينقل الآجُر لصنع الخزف في فترة شبابه، وقد كانت صناعة الخزف والفخار من الصناعات التقليدية التي انتشرت في قرطبة آنذاك، وكانت حياته متواضعة، إذ كان من أسرة متوسطة أو خاملة مع علو حسبه ونسبه.

 

إلا أنه أنبه شأن أسرته، وأعلى ذكرها بما قدم من آثار ومؤلفات، وكان رحمه الله تعالى كثير المطالعة، مجدا في التحصيل، وكثير الحديث عما يشكل، وكان يحب الكتب حبا جما، ويحرص على جمعها واقتنائها، حتى لقد تجمع لديه منها مجموعات كثيرة منوعة، ولو أن باحثا قام بجمع موارده في تفسيره فقط، لتجمع لديه الشيء الكثير، والعجب العجاب من آثار المشرقيين والمغربيين معا، وإليك مثال من حبه للكتب وشغفه بالمطالعة، من كتابه التذكرة فقط قال رحمه الله وكنت بالأندلس قد قرأت أكثر كتب المقرئ الفاضل أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان، ولقد عاش مأساة الأندلس، فقد ظل بقرطبة حتى سقوطها، وخرج منها نحو عام ستمائه وثلاثه وثلاثون من الهجرة، فرحل إلى المشرق طلبا للعلم من مصادره، فانتقل إلى مصر.

 

التي كانت محطا لكثير من علماء المسلمين على اختلاف أقطارهم، فدرس على أيدي علمائها، واستقر بها، وإن العهد الذي وفد فيه القرطبي إلى مصر كانت محطا لكثير من علماء المسلمين على اختلاف أقطارهم وأجناسهم إذ وجدوا فيها أمنا فقدوه في ديارهم، ومن هنا ندرك المكانة التي كانت تتمتع بها مصر لدى العلماء الذين وفدوا إليها من كل الأقطار، وهو ما جعل الإمام القرطبي يَقصدها مباشرة بعد سقوط قرطبة، وذلك ليلتقي بهؤلاء العلماء ويأخذ عنهم، ويؤيد هذا ما نقلته المصادر من تنقّلات القرطبي في بلاد مصر، من منطقة لأخرى، باحثا عن العلماء، ومن ذلك تنقله إلى الإسكندرية، والقاهرة، والفيوم، وقد قال عنه الإمام الذهبي هو إمام متقن، متبحّر في العلم، له تصانيف مفيدة، تدل على إمامته، وكثرة اطلاعه، ووفور فضله.

 

وقال عنه ابن فرحون كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف، وان القرطبي رحمه الله تعالى كان يلتزم الأصول العلمية، ويتبع أساليب العلماء الفضلاء الذين لا يعنيهم إلا أن يثبتوا الفضل لأهله، ويتورعوا عن أن ينسبوا لأنفسهم ما ليس لهم، وهذه هي الأمانة العلمية التي يعمل علماء العالم الآن على تأصيلها، وتثبيت قيمها، واتخاذ أساليب لتنفيذها، ولا يتصور أنها تخرج عما ارتضاه الإمام القرطبي لنفسه حين كتب تفسيره حيث قال “وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال من بركة العلم أن يضاف إلى قائله وكان القرطبي رحمه الله من الزهد والورع بمكان.

 

ومن ثم أثنى عليه المؤرخون لتحليه بهذه الصفات الحميدة، فقال ابن فرحون كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين، الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة، ونرى في مطالعتنا لكتب القرطبي نفس العالم الصالح الورع الزاهد في كل صفحة من صفحاتها، فهو يشكو دائما من كثرة الفساد، وانتشار الحرام، والابتعاد عن الواجبات، والوقوع في المحرمات، ومن مظاهر ورعه وزهده هو تصنيفه كتابي قمع الحرص بالزهد والقناعة وكتاب التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، ومن مظاهره أيضا هو ذمه الغنى الذي يجعل صاحبه مزهوا به، بعيدا عن تعهد الفقراء، ضعيفا في التوكل على رب الأرض والسماء، ولا غرابة في أن يكون القرطبي شجاع القلب، جريئا في إعلان ما يراه حقا، لأنه قد اكتسب تلك الأسباب.

 

التي تسلحه بهذه الجرأة من علم واسع، وورع مشهود، واستهانة بالدنيا ومظاهرها، ولهذا كان رحمه الله تعالى ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، ويتمثل هذا في إيمائه في أكثر من موضع في تفسيره إلى أن الحكام في عصره الذين حادوا عن سواء السبيل، فهم يظلمون ويرتشون، وتسود عندهم أهل الكتاب، ومن ثم فهم ليسوا أهلا للطاعة، ولا للتقدير، وكان يقول الامام القرطبى هذا هو الزمان الذي استولى فيه الباطل على الحق، وتغلب فيه العبيد على الأحرار من الخلق، فباعوا الأحكام، ورضي بذلك منهم الحكام، فصار الحكم مكسا، والحق عكسا لا يوصل إليه، ولا يقدر عليه، بدلوا دين الله، وغيروا حكم الله، سماعون للكذب أكَالون للسحت.

 

وبعد أن قضى الإمام القرطبي عمره بين تعلم وعبادة وتصنيف، جاءته سكرة الموت وهو بمنية بني خصيب من الصعيد الأدنى بمصر، ففي مُنية الخصيب بصعيد مصر، كانت وفاة عالمنا الجليل الإمام القرطبى، ليلة الاثنين التاسع من شهر شوال سنة ستمائه وواحد وسبعين من الهجرة وقبره بالمنيا شرق النيل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى