مقال

الدكروري يكتب عن جمال الدين الأفغاني ” جزء 3″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن جمال الدين الأفغاني ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الثالث مع جمال الدين الأفغاني، ولم يكن على وفاق مع شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي، وفي رمضان سنة ألف ومائتان وسبع وثمانين من الهجرة،الموافق شهر ديسمبر سنة ألف وثماني مائة وسبعين ميلادي، رغب إليه مدير دار الفنون أن يلقي فيها خطابا للحث على الصناعات، فاعتذر باديء ذي بدء بضعفه في اللغة التركية، فألح عليه، فأنشأ خطابا طويلا كتبه قبل إلقائه، وعرضه على نخبة من أصحاب المناصب العالية، فأقروه واستحسنوه، وألقى الأفغاني خطابه بدار الفنون، في جمع حاشد من ذوي العلم والمكانة، فنال استحسانهم، لكن خلافا حدث بينه وبين شيخ الإسلام، وأصدرت الأستانة أمرها إلى الأفغاني بالرحيل عن الأستانة بضعة أشهر، حتى تسكن الخواطر، ويهدأ الاضطراب، ثم يعود إليها إن شاء، ورغب إليه بعض مريديه أن يتحول إلى الديار المصرية.

 

فعمل برأيهم وقصد إليها، وقد جاء السيد جمال الدين إلى مصر في أول شهر محرم سنة ألف ومائتان وثماني وثمانين من الهجرة، الموافق شهر مارس سنة ألف وثماني مائة وواحد وسبعين ميلادي، لا على نية الإقامة بها، بل على قصد مشاهدة مناظرها، واستطلاع أحوالها، ولكن رياض باشا وزير إسماعيل في ذلك الحين رغب إليه البقاء في مصر، وأجرت عليه الحكومة راتبا مقداره عشرة جنيهات كل شهر، لا في مقابل عمل، واهتدى إلى الأفغاني كثير من طلبة العلم، يستورون زنده، ويقتبسون الحكمة من بحر علمه، فقرأ لهم الكتب العالية في فنون الكلام، والحكمة النظرية، من طبيعية وعقلية، وعلوم الفلك، والتصوف، وأصول الفقة، بإسلوب طريف، وطريقة مبتكرة، وكانت مدرسته بيته، ولم يذهب يوما إلى الأزهر مدرسا، وإنما ذهب إليه زائرا، وأغلب مايزوره يوم الجمعة.

 

وكان أسلوبه في التدريس مخاطبة العقل، وفتح أذهان تلاميذه ومريديه إلى البحث والتفكير، وبث روح الحكمة والفلسفة في نفوسهم، وتوجيه أذهانهم إلى الأدب، والإنشاء، والخطابة، وكتابة المقالات الأدبية، والاجتماعية، والسياسية، فظهرت على يده نهضة في العلوم والأفكار أنتجت أطيب الثمرات، وإن السبب الذي أدي الخديوي إسماعيل إلى استمالته إلي جمال الدين الأفغاني للإقامة في مصر، وإكرام مثواه، ويبدو هذا العمل غريبا، لأن لجمال الدين ماضيا سياسيا ومجموعة أخلاق ومبادئ، ولاترغب فيه الملوك المستبدين، ولم يكن السيد من أهل التملق والدهان، فينال عطفهم ورعايتهم، ويجرون عليه الأرزاق بلا مقابل، ولكن الأمر لايعسر فهمه إذا عرفنا أن في الخديوي إسماعيل جانبا ممدوحا من صفاته الحسنة، وهو حبه للعلم، ورغبته في نشره ورعايته، وكانت شخصية جمال الدين العلمية.

 

وشهرته في الفلسفة، أقوى ظهورا وخاصة في ذلك الحين، من شخصيتة السياسية، فلا غرو أن يكرم فيه إسماعيل العالم المحقق، الذي يفيض على مصر من بحر علمه وفضله، وفي الحق أن الخديوي إسماعيل لم يكن يقصر في اغتنام الفرصة لتنشيط النهضة العلمية ورعاية العلماء والأدباء، فترغيبه جمال الدين في البقاء بمصر يشبه أن يكون فتحا علميا، كتأسيس معهد من معاهد العلم العالية التي أنشئت على يده، أما آراء الأفغاني السياسية وكراهيته للاستبداد ونزعته الحرة، فلم يكن مثل الخديوي إسماعيل يخشاها أو يحسب لها حسابا كبيرا، لأنه في ذلك الحين سنة ألف وثماني مائة وواحد وسبعين ميلادي، كان قد بلغ أوج سلطته ومجده، فكان يحكم البلاد حكما مطلقا، يأمر وينهى ويتصرف في أقدار البلاد ومصاير أهلها، دون رقيب أو حسيب، وكان مجلس شورى النواب آلة مطواعة في يده.

 

والصحافة في بدء عهدها تكيل له عبارات المديح، وتصوغ له عقود الثناء، ولم يكن سلطانه قد استهدف بعد التدخل الأجنبي، لأن هذا التدخل لم يقع إلا في سنة ألف وثماني مائة وخمس وسبعين ميلادي، كما رأيت في سياق الحديث، فليس ثمة مايخشى منه إسماعيل، على سلطته المطلقة، من الناحية الداخلية أو الخارجية، حين رغب إلى الأفغاني الإقامة والتدريس في مصر، وقد بدأت النهضة التي ظهرت على يد السيد جمال الدين، علمية، أدبية، ولم تتطور إلى الناحية السياسية إلا حوالي سنة ألف وثماني مائة وست وسبعين ميلادي، على أنها في تطورها السياسي لم تتجه ضد إسماعيل بالذات، بل اتجهت في الجملة ضد التدخل الأجنبي، وأيضا أن جمال الدين قد بارح الأستانة، إذ لم يجد فيها جوا صالحا للنهضة العلمية، والفكرية، وقصد إلى مصر وقد سبقته إليها أنباؤه، ومالقيه في دار الخلافة من العنت والاضطهاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى