مقال

الدكروري يكتب عن الإمام أسد إبن الفرات ” جزء 4″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام أسد إبن الفرات ” جزء 4″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الرابع مع الإمام أسد إبن الفرات، وتعتبر جزيرة صقلية أكبر جزر البحر المتوسط مساحة وأغناها من حيث الموارد الاقتصادية وأفضلها موقعا، ولقد انتبه المسلمون لأهمية هذه الجزيرة مبكرا منذ عهد الصحابة، حيث حاولوا فتحها في عهد عبد الله بن سعد رضي الله عنه ثم معاوية بن حديج، ثم عقبة بن نافع، ثم عطاء بن رافع، وكان آخرهم عبد الرحمن بن حبيب وذلك سنة مائة وخمس وثلاثين من الهجرة، ثم وقعت الفتن الداخلية ببلاد المغرب بين العرب والبربر وانشغل المسلمون عن جهاد العدو الذي انتهز الفرصة وأغار على سواحل المغرب عند منطقة إفريقية مما جعل المسلمين يتوحدون ويتهيئون للرد على هذا العدوان البيزنطي، وفي هذه الفترة وقعت العديد من الاضطرابات بجزيرة صقلية والتي كانت تتبع الدولة البيزنطية حيث وقع نزاع على حكم الجزيرة بين رجلين.

 

أحدهما اسمه يوفيميوس وتسميه المراجع العربية فيمي، والآخر اسمه بلاتريوس وتسميه المراجع العربية بلاطه وانتصر بلاطه على فيمي الذي فر هاربا إلى إفريقية واستغاث بزيادة الله بن الأغلب حاكم إفريقية وطلب منه العون في استعادة حكمه على الجزيرة، فرأى زيادة الله فيها فرصة سانحة لفتح الجزيرة، واستنفر زيادة الله الناس للجهاد وفتح صقلية، فهرعوا لتلبية النداء وجمعت السفن من مختلف السواحل وبحث ابن الأغلب عن من يجعله أميرا لتلك الحملة البحرية الكبيرة، فلم يجد خيرا ولا أفضل من الأسد الهصور والبطل المقدام أسد بن الفرات على الرغم من كبر سنه في هذه الفترة شهر ربيع الأول عام مائتان وإثني عشر هجرية أي سبعين عاما، وكان هذا الاختيار دليلا على فورة المشاعر الإسلامية في هذه الفترة والأثر الكبير لعلماء الدين الربانيين على الشعب المسلم.

 

وكان أسد بن الفرات يبدي رغبته في هذه الغزوة كواحد من المسلمين لأنه كان محبا للجهاد عالما بمعاني ومقتضيات آيات النفرة في سبيل الله ودور العلماء في ذلك، وأيضا كان يكره الشهرة والرياء، ولكن ابن الأغلب أصر على أن يتولى قيادة الحملة العسكرية وأيضا يكون قاضيا للحملة أي جمع له القيادة الميدانية والروحية لعلمه بمكانة أسد بن الفرات وأثره في الناس وحبهم له، وخرج أسد بن الفرات من القيروان في حملة عسكرية كبيرة قوامها عشرة آلاف من المجاهدين المشاة وسبعمائة فارس بخيولهم في أكثر من مائة سفينة كبيرة وصغيرة خرجت من ميناء سوسة على البحر المتوسط، وسط جمع عظيم من أهل البلد الذين خرجوا لتوديع الحملة المجاهدة، وتحرك الأسطول الإسلامي يوم السبت الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة مائتان واثني عشر هجرية متجها إلى جنوبي جزيرة صقلية.

 

وبالفعل الأساطيل المسلمة إلى بلدة فازر في طرف الجزيرة الغربي بعد ثلاثة أيام من الإبحار أي يوم الثلاثاء، ونفذ أسد بن الفرات على رأس جنده إلى شرقي الجزيرة، وهناك وجد قوة رومية بقيادة الثائر فيمي الذي طلب مساعدة ابن الأغلب لاستعادة حكمه على الجزيرة، وعرض فيمي على أسد بن الفرات الاشتراك معه في القتال ضد أهل صقلية، ولكن القائد المسلم العالم بأحكام شريعته المتوكل على الله عز وجل وحده يرفض الاستعانة بالمشركين تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي رفض الاستعانة باليهود يوم أحد، واستولى أسد على العديد من القلاع أثناء سيره مثل قلعة بلوط، والدب، والطواويس حتى وصل إلى أرض المعركة عند سهل بلاطه نسبة إلى حاكم صقلية، وعندها أقبل بلاطه في جيش عدته مائة وخمسون ألف مقاتل، أي عشرة أضعاف الجيش المسلم.

 

وعندها قام أسد بن الفرات في الناس خطيبا، فذكرهم بالجنة، وموعود الله عز وجل لهم بالنصر والغلبة، وهو يحمل اللواء في يده، ثم أخذ يتلو آيات من القرآن، ثم اندفع للقتال والتحم مع الجيش الصقلي الجرار، واندفع المسلمون من ورائه، ودارت معركة طاحنة لا يسمع منها سوى صوت قعقعة السيوف وصهيل الخيول والتكبير الذي يخترق عنان السماء، والأسد العجوز أسد بن الفرات الذي جاوز السبعين يقاتل قتال الأبطال الشجعان حتى إن الدماء كان تجرى على درعه ورمحه من شدة القتال وكثرة من قتلهم بنفسه وهو يقرأ القرآن ويحمس الناس، وتمادت عزائم المسلمين حتى هزموا الجيش الصقلي شر هزيمة، وفر بلاطه من أرض المعركة وانسحب إلى مدينة قصريانة ثم غلبه الخوف من لقاء المسلمين ففر إلى إيطاليا وهناك قتل على يد بني دينه بسبب جبنه وإحجامه عن قتال المسلمين.

 

وبعد هذا الانتصار الحاسم واصل أسد بن الفرات زحفه حتى وصل إلى مدينة سرقوسة ومدينة بلرم فشدد عليها الحصار وجاءته الإمدادات من إفريقية واستطاع أسد بن الفرات أن يحرق أسطول البيزنطيين الذي جاء لنجدة بلرم وأوشكت المدينة على السقوط، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان حيث حل بالمسلمين وباء شديد أغلب الظن أنه الكوليرا أو الجدري، فهلك بسببه عدد كبير من المسلمين في مقدمتهم القائد المقدام أسد بن الفرات فلاقى حمام الموت مرابطا مجاهدا بعيدا عن أهل وبيته وحلق دروس العلم، مجافيا لفراشه وداره، مؤثرا مرضاة ربه ونصرة لدينه، وذلك في شعبان سنة مائتان وثلاثة عشر من الهجرة، فجمع بين خصال الخير كلها من علم وورع، وجهاد وشهادة، فيا ليت علماء الأمة يتعلمون شيئا من سيرة هذا البطل الذي سقط من ذاكرة المسلمين الآن.

 

وفي النهاية توفي القائد الإمام أسد بن فرات بمرض الطاعون أثناء حصاره لمدينة سرقوسة وذلك في شهر ربيع الثاني سنة مائتان وثلاثة عشر من الهجرة، ودُفن في قصريانة وقد ذكر الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات، أنه دُفن في بلرم، وهي مدينة بالرمو الإيطالية، وذلك أثناء حصار سرقوسة، التي يبدو أنهم كانوا يحاربونها من صقلية الإيطالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى