مقال

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خلدون ” جزء 4″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام ابن خلدون ” جزء 4″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الرابع مع الإمام ابن خلدون، أي ضمن العصبية العامة حيث إن كل حي أو بطن من القبائل، وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام، ففيهم أيضا عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاما من النسب العام لهم مثل عشير واحد أو أهل بيت واحد أو أخوة بني أب واحد، لا مثل بني العم الأقربين أو الأبعدين، فهؤلاء أقعد بنسبهم المخصوص، ويشاركون من سواهم من العصائب في النسب العام، والنعرة تقع من أهل نسبهم المخصوص ومن أهل النسب العام، إلا أنها في النسب الخاص أشد لقرب اللحمة ومن هنا ينجم التنافس بين مختلف العصبيات الخاصة على الرئاسة، تفوز فيه بطبيعة الحال العصبة الخاصة الأقوى التي تحافظ على الرئاسة إلى أن تغلبها عصبة خاصة أخرى وهكذا ولما كانت الرئاسة انما تكون بالغلب، وجب أن تكون عصبة ذلك النصاب أي أهل العصبية الخاصة.

 

أقوى من سائر العصبيات ليقع الغلب بها وتتم الرئاسة لأهلها فهذا هو سر اشتراط الغلب في العصبة، ومنه تعين استمرار الرئاسة في النصاب المخصوص، ويحدد ابن خلدون مدة وراثة الرئاسة ضمن العصبية القوية بأربعة أجيال على العموم، أي بحوالي مائة وعشرين سنة في تقديره، ذلك بأن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي سبب كونه وبقائه، وبعده ابن مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذ عنه، إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشئ عن المعاين له ثم إذا جاء الثالث كان حظه في الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن أمر ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر واجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصبية.

 

واعتبار الأربعة من الأجيال الأربعة بان ومباشر ومقلد وهادم، وبذلك ينهي ابن خلدون نظريته المتعلقة بالسلطة أثناء مرحلة العمران البدوي ويخلص إلى نتيجة أن السلطة في تلك المرحلة مبنية أساسا على العصبية بحيث لا يمكن أن تكون لها قائمة بدونها، وانطلاقا من نظريته السابقة المتعلقة بدور العصبية في الوصول إلى الرئاسة في المجتمع البدوي، واصل ابن خلدون تحليله على نفس النسق فيما يتعلق بالسلطة في المجتمع الحضري مبينا أن العصبية الخاصة بعد استيلائها على الرئاسة تطمح إلى ما هو أكثر، أي إلى فرض سيادتها على قبائل أخرى بالقوة، وعن طريق الحروب والتغلب للوصول إلى مرحلة الملك وهذا التغلب هو الملك، وهو أمر زائد على الرئاسة، فهو التغلب والحكم بالقهر، وصاحب العصبية إذا بلغ رتبة طلب ما فوقها معتمدا في تحقيق ذلك أساسا وبالدرجة الأولى على العصبية.

 

حيث أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك، فهذه إذن المرحلة الأولى في تأسيس الملك أو الدولة، وهي مرحلة لا تتم إلا من خلال العصبية، وبالوصول إلى تلك المرحلة يبدأ العمران الحضري شيئا فشيئا وتصبح السلطة الجديدة تفكر في تدعيم وضعها آخذة بعين الاعتبار جميع العصبيات التابعة لها، وبذلك فإنها لم تعد تعتمد على عامل النسب بل على عوامل اجتماعية وأخلاقية جديدة، يسميها ابن خلدون الخلال، وهنا تدخل الدولة في صراع مع عصبيتها، لأن وجودها أصبح يتنافى عمليا مع وجود تلك العصبية التي كانت في بداية الأمر سببا في قيامها، فيتراءى لنا مبدأ نفي النفي في المادية الجدلية إضافة رابط المادية الجدلية إن وجد، ومع نشوء الملك يتخطى الملك عصبيته الخاصة، ويعتمد على مختلف العصبيات وبذلك تتوسع قاعدة الملك ويصبح الحاكم أغنى وأقوى من ذي قبل، بفضل توسع قاعدة الضرائب من ناحية.

 

والأموال التي تدرها الصناعات الحرفية التي تنتعش وتزدهر في مرحلة العمران الحضري من ناحية أخرى لتدعيم ملكه يلجأ إلى تعويض القوة العسكرية التي كانت تقدمها له العصبية الخاصة أو العامة القبيلة بإنشاء جيش من خارج عصبيته، وحتى من عناصر أجنبية عن قومه، وإلى إغراق رؤساء قبائل البادية بالأموال، وبمنح الإقطاعات كتعويض عن الامتيازات السياسية التي فقدوها وهكذا تبلغ الدولة الجديدة قمة مجدها في تلك المرحلة، ثم تأخذ في الانحدار حيث أن المال يبدأ في النفاذ شيئا فشيئا بسبب كثرة الإنفاق على ملذات الحياة والترف والدعة، وعلى الجيوش ومختلف الموظفين الذين يعتمد عليهم الحكم فيزيد في فرض الضرائب بشكل مجحف، الشئ الذي يؤدي إلى إضعاف المنتجين، فتتراجع الزراعة وتنقص حركة التجارة، وتقل الصناعات، وتزداد النقمة وبذلك يكون الحكم قد دخل مرحلة بداية النهاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى