القصة والأدب

موت الحلم وديمومة الصراع ..

جريدة الاضواء

موت الحلم وديمومة الصراع ..

 

قراءة في قصة (دُمْيَة ) للقاص والروائي إبراهيم معوض

 

 

 

د / محمد سيد عبد الحميد الدمشاوي، أستاذ الأدب العربي والنقد المساعد

 

 

 

دمية ، عنوان ملغز، لقصة أكثر إلغازا وتعقيدا واشتجارا ، تتعدد دلالات العنوان، وتزداد معها حيرة القارئ، وتتعدد توقعاته وافتراضاته .

ثم تأتي جملة الاستهلال لتزيده حيرة فوق حيرته:

 

“قطار الليل بطئ دوما، ينزلق فوق القضبان مثل لعبة يدفعها كف صبي واهن ”

ثم تسلمك المقاطع السردية، واحدا بعد الآخر، وتشتجر مفردات البنية الحكائية ، لتجد نفسك حائرا بين عالمين : عالم الماضي بأحلامه الضائعة، وأمنياته المفقودة، بسبب الجهل والفقر والافتقار للقرار :

” أبي يوصيني أن أكتفي بالثانوية العامة كي أخفف الحمل عن كاهله.. أوافق بعين منكسرة وأنا أسحب رغبتي في امتلاك القطار نحو الداخل ”

وعالم الحاضر بواقعه البائس التعيس

..” الوحشة تندفع من نوافذ القطار مع الرياح الخشنة مؤلم جدا أن يمر كل هذا الوقت وأنا جالس في قطار، طول الوقت ينذر بابتعادي عن أرضي وناسي ”

” زوجتي تلملم ملابسها في حقيبة وتغادر.. ”

كما تجد نفسك حائرا بين قطارين كما ينبئنا الراوي السارد :

قطار دمية ، كان حلم الراوي / الصبي، يسكن قلبه وروحه، ويحلم أن يمتلكه ويستمتع به، لكن الحلم لم يتحقق بسبب فقر الأب، وعدم قدرته على تلبية هذا المطلب؛ حيث لا يملك من المال إلا ما يكفي إطعام بقية الأولاد، فيبتلع الصبي حزنه دون دموع، ويميت في قلبه هذه الأمنية الغالية، على أمل أن يكون ضابطا في المستقبل، ويشتري كل ما يشتهيه :

” سحبت رغبتي نحو الداخل بغير دموع تظهر، أقول لنفسي: غدا سأكون ضابطا ومعي من المال ما يكفي كي اشتري هذا المحل كله ”

وقطار حقيقي يسكنه الراوي / الرجل بعد أن غادر الطفولة والصبا ، ذلك المسافر إلى عمله في أقاصي الصعيد منهكا كارها مقهورا .

وبين العالمين / القطارين يتنقل الراوي بحرية تامة، وبسلاسة تأخذ اللب، وبأسلوب طيع ،لا يتعثر في انتقاله بين الماضي والحاضر، أو بين الحقيقة والخيال، أو بين الرمز والمرموز إليه، يذهب لماض مؤلم، فيتذكر عبره موت الحلم، ومرارة الحرمان وضيق الحال، ويعود لحاضر تعيس، لا يقل قسوة وحرمانا عن ماضيه ؛ فالقطار اللعبة توفر له، وتوفرت معه ألعاب ودمى كثيرة، لكن البهجة التي كان ينشدها لم تتحقق، فقد ماتت بموت الحلم القديم:

” أتسمَّع إلى صفيره الآلي وهو يدور في الصالة، أنتظر البهجة فلا تأتي”

والطفل الذي كان يحلم به ، وينتظر قدومه ليستعيض من خلاله ما فاته من حرمان، ويستمتع من خلاله بتلك الدمى التي جمع الكثير منها بصورة أدهشت أصحابه ومرافقيه، لكن الانتظار يطول، ولم يأت الطفل المنشود، وكأن الطفل مات في داخله بموت الحلم أيضا، مات حقيقة ومات رمزا، فاستمر إحساسه بديمومة الحرمان:

” أحضر اللعب وأنتظر الأطفال . .مرت الأعوام وأنا أنتظر ”

ويبحث الراوي / السارد عن بديل لطفله في دور الأيتام يشاركه البهجة والسعادة ، فيجد الأطفال لكنه لا يجد السعادة:

” يكفيني أن أنزل إلى دور الأيتام كل عام ببعض من مقتنياتي، كفيلة هي أن تسعد الكثيرين منهم إلا أنا ”

تنفجر زوجته غيظا من تصرفاته الصبيانية ، وممارسته للعب بالقطار الدمية في صالة البيت كالأطفال، وتتهمه بالجنون، ثم لا تلبث أن تغادر البيت وتتركه وحيدا:

” وزوجتي تكتم غيظها من أفعالي ولما تنفجر تختلي بمهاتفة أمها لتخبرها أنني قد صرت مجنونا رسمياً ”

” نظرت وعبست وبصقت في منديلها ونامت”

” زوجتي تلملم ملابسها في حقيبة وتغادر ”

والقطار الحقيق لا يقل تعاسة عن قطار اللعبة فهو يقذف به في حرارة محرقة :

” حرارة الجو ترتفع كلما يغوص القطار في الجنوب يلتهم برغم بطئه القرى والأشجار ”

ولا يجلب له غير الوحشة والاغتراب، والانقطاع عن أهله وأحبته:

” الوحشة تندفع من نوافذ القطار مع الرياح الخشنة مؤلم جدا أن يمر كل هذا الوقت وأنا جالس في قطار، طول الوقت ينذر بابتعادي عن أرضي وناسي ”

الجديد في هذه القصة الماتعة هو طريقة التنقل بين العالمين المتضادين في القصة من البداية إلى النهاية، حيث يسيران جنبا إلى جنب في خطين متوازيين، الماضي إلى جوار الحاضر، الحلم إلى جوار الحقيقة والواقع، الرمز مع المرموز إليه، القطار الدمية إلى جوار القطار الحقيقي، في معادلة واحدة، وكأن الراوي يريد أن يقول: إن الحاضر هو صناعة الماضي، واستمرار له، وأن الماضي لا ينتهي ولا يتوقف، وإنما هو صانع الحاضر ومشكل المستقبل، والمهيمن على كل شيء.

 

ويتحول القطار هنا إلى رمز مغلق، فهو المحرك الحقيقي الذي تدور حوله أحداث القصة؛ تنطلق منه الأحداث، وتتجمع حوله مفردات البنية الحكائية ، وكأنه قطار العمر الذي ينتقل من الماضي إلى الحاضر، يمضى فيفرغ بمضيه حياة الإنسان وأحلامه؛ لقد كان القطار حلم الصبي في صغره، لكنه تحول بمضي الأيام / العمر / القطار/ إلى كابوس قاتل وكأنه ينتقم من هذا الصبي الحالم، فالقطار الحقيقي يجتثه من بلده وأهله وناسه، ويلقي به في أماكن غير مرغوب فيها، والقطار الدمية يدور في الصالة فلا يجلب السعادة المرجوة، بل هو ينغص عليه حياته ، ويتسبب في اتهامه بالجنون، ويفسد استقراره الأسري حيث تغادر الزوجة، بعد أن أهانته وبصقت عليه، وإن كانت قد وارت فعلتها في المنديل، لكن رسالتها قد وصلت بلا شك.

 

ويحرم بطل القصة / الراوي السارد العليم / من إنجاب الأطفال فتموت السعادة بالقطار / الدمية مع هذا الحرمان ، فيذهب لدور الأيتام محاولا البحث عن بديل يستجدي من خلاله السعادة، فيبتهجُ الأطفال كلّهم، لكنَّهُ يظل محروما من السعادة والبهجة، غير مدرك لها.

 

لقد ماتت كل أحلام الصبي في صغره، فمات معها الصبي روحا وإحساسا ووجودا، فلم يشتر القطار في صباه، ولم يصبح ضابطا كما تمنى، وكل ما وصل إليه أنه أصبح مخبرا سريا يسافر في الأماكن البعيدة ، ويعاني ويلات السفر وحرارة الجو، ينتظر على مضض أن يلتقي بالضابط ( البيه المأمور ) :

 

” قام صاحب المقهى وظل يصافحني حتى تورمت كفي ضحك بخبث وقال: نورت المركز كله يا سعادة الباشا. البيه المأمور مش هيقابلك قبل الساعة تسعة

سألت نفسي: كيف علموا أنني المخبر السري الجديد ”

مع ملاحظة القصد من استخدام لفظ ( السري ) ؛ فالسرية هنا يتم توظيفها معنويا، وفق مفهوم الانسحاب إلى الداخل التي يعتمدها القاص كمفهوم لموت الأحلام وضياع الأماني:

” سحبت رغبتي نحو الداخل بغير دموع تظهر ”

” أوافق بعين منكسرة وأنا أسحب رغبتي في امتلاك القطار نحو الداخل ”

لتؤكد مفهوم التقوقع داخل الذات، والانفصال عن العالم الخارجي.

 

إن فقدان الصبي لحلم امتلاك القطار الدمية أحال حياته رهنا لهذا القطار، بل إنَّ القطار هو الذي تملَّكه وسيطر عليه، وتحول الصبي / الرجل إلى دمية في يد هذا القطار بقية عمره:

” مؤلم جدا أن يمر كل هذا الوقت وأنا جالس في قطار، طول الوقت ينذر بابتعادي عن أرضي وناسي ”

 

ومع موت الحلم ، تنتهي الحياة ، وتموت الدمية / الحلم “.. ألقيت برأسي للخلف.. والقطار يدور في الصالة ببطء يبدو أن بطارياته تحتاج إلى تبديل

ولا تخلو القصة من الإسقاط الذي يتشكل عبر لغة السرد، وعبر خروج التعابير عن المنطقية والمألوف:

” غدا سأكون ضابطا ومعي من المال ما يكفي كي اشتري هذا المحل كله”

 

فلم يقل سأصبح غنيا وأشتري المحل كله، وإنما هو يحلم أن يكون ضابطا، ذا سلطة، تمكنه من اتخاذ القرار، وتحقيق الحلم، لأن صراعه الخارجي كان بسبب ضعفه وفقدانه للقرار أمام السلطة، وإن كانت السلطة هنا هي سلطة الأب / المقرر / الفاعل / وهي سلطة رمزية غير مقصودة لذاتها.

 

ولأن بطل القصة قد فقد القدرة على مجاراة الصراع الخارجي / التعامل مع العالم / وفقد القدرة على مواجهة السلطة / الأب ، ومن ثم فقد سحب أحلامه إلى الداخل ، وتحول الصراع مع العالم إلى صراع مع الذات :

” أبي يوصيني أن أكتفي بالثانوية العامة كي أخفف الحمل عن كاهله.. أوافق بعين منكسرة وأنا أسحب رغبتي في امتلاك القطار نحو الداخل”

” تذكرت يوم قال لي أبي وأنا انظر إلي الفاترينة : لا يمكن أن أشتريه لك واطعم إخوتك في آن واحد. سحبت رغبتي نحو الداخل بغير دموع تظهر”

 

إن القصة رغم محدودية المساحة المكتوبة تجسد صراعا طويلا وعميقا للذات مع العالم الخارجي:

 

صراع مع الأب / القرار / المنع / التسلط / الجهل / الفقر .

صراع مع الزوجة / الحب المفقود / الرجولة المهانة / عدم الإنجاب / مغادرة الزوجة للبيت.

صراع مع السلطة / حلم الضابط المفقود/ الهيبة المفتقدة/ البيه المأمور / المخبر السري .

صراع وجودي / موت الأحلام / انقطاع النسل / انكسار النفس / التقوقع في الذات / الصراع الداخلي

 

لكن القاص أدار كل هذا الصراع الطويل والعميق باقتدار، من خلال الاعتماد على خاصية الاختزال التي اعتمدتها لغة السرد في بعدها عن التفصيل، واكتفائها بالإشارة والتلميح، واعتمادها على العلاماتية في توصيل الرسائل القصصية، وعبر خروج المتواليات السردية عن منطقية الزمان المكان، وخروجها عن المألوف في تراتيب الأحداث، وكأنها تعتمد مفهوما عبثيا مقصودا لذاته ، كما تعتمد منطق السريالية في التعبير والتصوير لتجسد عبثية الحياة وعبثية الواقع باقتدار وحرفية نادرة وناجزة.

 

د / محمد الدمشاوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى