مقال

كلام النصر الموهوم…

كلام النصر الموهوم…

كتب/ يوسف المقوسي

 

كي تقوم اللغة بمهمتها الأساسية يجب أن يؤدي استخدامها إلى التواصل بين الناس. تفشل في ذلك عندما تكون غير متطابقة أو متناسبة مع الأحداث. المبالغات التي سمعناها حول فلسطين مؤخراً فيها الكثير مما يجعل المستمعين المتلقين للخطاب السائد غير مقتنعين بالاستنتاجات الرائجة. ذلك بدوره سوف يسيء للعلاقات بين الناس الذين يعتبرون قضية فلسطين ذات أهمية أولى في حياتهم، الإساءة بدورها تؤدي لانقسامات سياسية وفكرية لا تحتاجها قضية فلسطين؛ بالأحرى تحتاج إلى غيرها.

فكرة الانتصار التي تنعجق بها وسائل الإعلام حول ما جرى في فلسطين مؤخراً تتناقض مع كمية الخراب والدمار وكثرة القتلى والجرحى في فلسطين. الحرب شنتها إسرائيل، ومهما كان السبب، إلا أن الإجرام الإسرائيلي واضح. يصح أن نطلق عليه تعبير حرب إبادة أو محاولة تطهير عرقي. حرب تشنها إسرائيل كلّ بضع سنوات كي تصل إلى هدفها. ربما لم تصل إسرائيل إلى الهدف هذه المرة، وربما لم ترد الوصول إلى هدف معلن لهذه الحرب. لكن ما نعرفه بالتأكيد أن إسرائيل تتبع سياسة القضم أو الحصول على كامل فلسطين (وما يجاورها؟) بالتدريج. ولا ندري إذا كانت الهدنة ووقف إطلاق النار هذا لصالح إسرائيل أو لصالح الفلسطينيين. لكن سياسة القضم والتدرج تقضي بأن يكون لكلّ حرب محدودة تشنها إسرائيل وقف إطلاق نار.

لا بدّ أن يظهر الفلسطينيون معنويات عالية. ولا بدّ أن يفرحوا بالهدنة ووقف الحرب. لكن أن نسمي ذلك نصراً لهم ولنا، أو انتصاراً، ففي ذلك مبالغة. كيف يكون انتصاراً لنا ونحن الذين نشتكي، ونحن الذين نستجدي إعادة إعمار وتكاليف ذلك؟ لا يمكن للمرء أن يفرح بالنصر، إلا إذا كان النصر افتعالاً يفترض واقعاً غير ما يبدو على أرض الواقع. المفتعل هو انعدام الواقعية في النظر إلى الأمر. وإذا كان ذلك مفتعلاً فإنه يشير إلى أن ما وراءه شيئاً غير واقعي في السياسة؛ أو أن هناك سياسة غير واقعية لدى الطرف العربي ومن يدعمه.

الخراب كبير. ويعيد فلسطين العربية سنوات إلى الوراء. يبعدهم عن هدف التحرير والتحرر. الكلام عن الإعمار ضروري. لكن إذا فكّر المرء في كيفية الإعمار، إذا حصل، وفي القوى التي ستتولى الإعمار، وهي حتى الآن كما يبدو قوى غربية وعربية داعمة تقليدياً لإسرائيل، فإن ذلك سيضع فلسطين، أو ما بقي منها للعرب، تحت وصاية إضافية. ليست وصاية أخرى غير إسرائيل، بل وصاية زائدة على وصاية إسرائيل؛ وصاية أخرى تضمن لإسرائيل حماية لتنفيذ سياسة القضم لديها. هذا الكلام عكس تمنياتنا. هو عكس عواطفنا التي تميل للفلسطينيين قلباً وقالباً، بحيث نتمنى أن يكون الهدف دائماً تحرير فلسطين بالكامل من الاحتلال الإسرائيلي. وإسرائيل تحتل كامل فلسطين، من القدس إلى تل أبيب إلى غزة إلى رام الله. بالمناسبة، مسألة إخلاءات الشيخ جراح يحكم فيها القضاء الإسرائيلي، أي السياسة الإسرائيلية.

يعتمد هذا التحليل على ميزان القوى. هو في غير صالح العرب أو الفلسطينيين. الأنظمة العربية تحدثت وما تزال عن “حل سياسي”، أي أنها لا تريد أن تتوّرط في عمل عسكري. القوة العسكرية لدى الفلسطينيين لا شيء تقريباً بالمقارنة مع إسرائيل. هناك صواريخ لدى الفلسطينيين في غزة. وهي قد تصيب أو لا تصيب. وهي مما يمكن أن ينضب. لكنها بالتأكيد لا يمكن أن تمنع الأذى في غزة، وعموم فلسطين. الأذى كبير. هو خراب مدمّر. ما حدث من أذى لإسرائيل لا يتعدى الخدوش. الدول الإسلامية المعنية أو المجاورة للمنطقة العربية مشغولة بقضاياها. لا مانع لديها أن تقام مهرجانات النصر بعد وقف إطلاق النار. مهرجانات تؤيد مهرجانات. كلام يعمّق الأوهام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى