مقال

محافظ المنيا الاسبق يكتب : الحمية، والعميــــة.

محافظ المنيا الاسبق يكتب : الحمية، والعميــــة.

متابعة / كامل شحاتة

 

تجمع الدول كافة مهما اختلفت مستوياتها، وتنوعت اقتصادياتها، وتباينت حضاراتها، على ضرورة الاهتمام بكل ما يؤدى إلى انصهار شعوبها فى بوتقة التأجج لرفعة أوطانها. ويعد هذا الانصهار بما ينجم عنه من مشاعر، وما يترتب عليه من أحاسيس، من أهم موجهات الحياة الاجتماعية فى شتى العصور، ومختلف الأزمان، ولكل إنسان. وذلك باعتبارها أى تلك الأحاسيس، والمشاعر، هى العنصر الحاسم، والمعطى المميز، والقادر كل منهما على خلق الشعور بالانتماء، وغرس الانغماس فى الولاء، والقادرين كلاهما على تحقيق الارتباط الفطرى، والالتصاق الطبيعى، بين الإنسان كمخلوق اجتماعى، وبين وطنه ككيان جغرافى، وتاريخى، ومادى لا يستطيع أبدا الابتعاد عنه، ولا يمكنه مطلقا مقاومة الحنين إليه، مهما نجح فى الانغماس فى وطن آخر، أو تميز فى مجتمع ثان، ليستمر فى داخله دائما وابدا غير قادر على مقاومة العودة- مهما طالت السنين، ومهما تظاهر بانمحاء الحنين- إن آجلا أو عاجلا لكل بقعة فى وطنه الأول، مهما اتسمت مكوناته، أو بقاعه بالتخلف، أو حتى بالسوء.

ويفرض ذلك الانتماء، والإحساس بالولاء، على بعض الدول اشتراطها لمنح جنسيتها لأى من مواطنى الدول الأخرى ضرورة تنازل كل منهم، وبشكل نهائى، عن جنسيته الأولى، بل وترتب أثارا قانونية غاية فى الأهمية حال اكتشافها عودة المتجنس مرة أخرى للاستمرار فى حمل جنسية دولته الأولى. وتهدف مثل تلك الدول من جراء ذلك كله إلى الوصول لحد التقديس الكامل لجنسيتها، والتيقن من توافر العقيدة الراسخة لتلك الجنسية دون منازعة فى اكتمال مشاعرها داخل كل من يحملها. وتسعى الدول بدرجات مختلفة لتعظيم تلك المشاعر فى نفوس مواطنيها، لتيقنها من أن ذلك التعظيم سيكون بمثابة الشعلة المقدسة داخل تلك النفوس، والقادرة دوما على وهب الحياة لهؤلاء المواطنين من ناحية، وتأجيج قدرات التفوق على أقرانهم من مواطنى الدول الأخرى فى شتى المجالات من ناحية أخرى.

وتفرض مثل تلك الأمور علينا كافة بإنصاف ضرورة التوقف أمام مظاهر تأججها لدى لاعبى منتخب مصر فى مباراتهم الرائعة أمس أمام الشقيق المغربى، والتى أدى ذلك التأجج فى داخل كل منهم، إلى التميز الواضح بينهم وبين لاعبى الفريق الأخر بالرغم من ثقل ذلك الفريق. ولا يعنى ذلك إطلاقا توافر تلك الحمية فى لاعبى المنتخب المصرى، وغيابها عن لاعبى المنتخب المغربى، وإنما يعنى بشكل واضح وصول تلك الحمية فى أبطالنا إلى الحد الذى جعل كل منهم قادر بتلك الشعلة القدسية على تحقيق عطاء غير مسبوق، والوصول إلى أداء واضح غير مقدور، بل وتخطى أزمة ضربة الجزاء الصادمة، إلى إحراز لهدف التعادل فى غيبة لاعبى الدفاع المغربى، والقادرين بمنهجيتهم، والمتميزين بطبيعتهم، على استفزاز الخصم من ناحية، والنجاح دوما فى إخراجه من إطار الهدوء الأدائى، وإقحامه إلى نطاق التعصب الانهزامى.

ويحتم سيناريو مباراة الأمس الحرص على ضرورة البحث عن السبب الحقيقى فى مثل تلك الطفرة التى تباهى بها جميع لاعبى المنتخب المصرى فى تلك المباراة، والتى أعتقد- من خلال رؤية شخصية محضة ممزوجة بخبرة الممارسة، ومخزون السنين- أنها تكمن فى ارتداء الكافة أمس لثوب الحمية النابع من جذور الوطن، والناجم عن حرارة انتماء أبنائه لتاريخه. ويظهر ذلك واضحا وجليا فى أن كرة القدم فى تلك الآونة بالذات قد أصبحت علما وفنا بعد أن كانت فيما مضى تقتصر على كونها من قبيل الفنون الرياضية فحسب. ويعنى ذلك أنها قد باتت تعتمد على محورين جوهريين أولهما بالدرجة الأولى المحور العلمى القائم على حسن توظيف كل معطيات العصر الحديث من علوم التشريح، ووظائف الأعضاء، وخلايا العضلات، وعلوم النفس بكافة مجالاتها، وشتى تخصصاتها، والتى يأتى فى مقدمتها بالطبع علم النفس الرياضى، وغير ذلك من الإنجازات العلمية المحددة لملامح هذا العصر، ومن أهمها الأجهزة العلمية الذكية، والقادرة على تحديد قوة العضلات، وأبعادها، وقياساتها، وبيان قدرة كل منها فى الوصول إلى الحد الأقصى من الجهد اللازم لممارسة تلك الرياضة. وثانيهما هو المحور الفنى، والمرتكز بالطبع على توافر الموهبة الفطرية لحسن الحوار الحركى بين الإنسان وتلك المعشوقة أى كرة القدم.

ويمكن القول بأن كافة الفرق الممارسة لرياضة كرة القدم سواء فى الأندية المختلفة، أم فى المنتخبات الوطنية، تكاد تتماثل فى نهلها من كافة إنجازات المحور العلمى بطريقة تكاد تكون أيضا متطابقة، وتتقارب كذلك فى اعتمادها على المحور الثانى، أى المحور الفنى المتمثل فى حسن اكتشافها لأعداد من أبنائها الموهوبين فنا، والمتميزين لعبا، بل والقادرة بسلطاتها على إغرائهم بحمل جنسيتها. ويترتب على ذلك أمر غاية فى الأهمية أصبح يتمثل فى تطابق خطط اللعب، وتحركات اللاعبين، ووظائف كل منهم، والحوارات التكتيكية، والجمل المهارية، والأحمال البدنية، والإطالات العضلية، والتقويات البدنية، والاحتياجات النفسية، والتوظيفات العصبية، والاستفادات التفوقية، والإشباعات الاجتماعية، وغير ذلك من التفصيلات الأخرى الداخلة فى صناعة كرة القدم، وحسن توظيف الاستثمار الرياضى للنهوض بها.

وينجم عن ذلك نتيجة غاية فى الأهمية مؤداها أن فرق كرة القدم على مستوى العالم بأسره يمكن من الوجهة النظرية اعتبارها متماثلة بسبب ما أصبحت تتيحه العولمة الحالية فى ذلك العصر من إمكان الوصول إلى توفير مكونات هاتين المحورين العلمى، والفنى على السواء، والقادرين على إمكان توفير عناصر فريق متميز لكرة القدم سواء على مستوى الأندية، أم على مستوى المنتخبات الوطنية. ويبرز فى تلك المنظومة ذلك الدور الهائل، والغير ممكن إدخاله فى نطاق كلا المحورين المذكورين، ليستمر له أى لذلك العنصر بريقه، وعبقريته، وحسمه، وسموه، وتميزه، وقوته، وغير ذلك من السمات الأخرى المميزة له، والتى ظهر فى الأمس بشكل قاطع، وتمثل فى تلك القدرة الهائلة على تحويل الهزيمة إلى نصر نتيجة حالة الحمية المتأججة فى نفوس لاعبى الفريق المصرى، والذى تحول أدائه بفضل تلك الحمية- دون غيرها- من أداء لأحد عشر لاعبا فحسب، إلى أداء بقوة حماس الشعب المصرى بأسره.

وتؤدى تلك الحمية إلى ضرورة التوقف بذات القدر من الاهتمام إلى ما يقابلها من حالة العمية التى غالبا ما تجدها فى مثل تلك المواقف المبهرة، والتى تتوافر لدى فئات محدودة سواء كانت من المواطنين، أو غير المواطنين، والذين تتحرك نفوسهم استجابة لبواعث شخصية فحسب، كلها تتسم فى النهاية بالمرضية. وتتمثل تلك المرضية إما فى الانهزامية، أو التآمرية، أو التشكيكية، أو التمردية، أو الخيانية، أو المتاجرية، أو التشويهية، أو الفوضوية، أو الإحباطية، أو غير ذلك من المظاهر المرضية الأخرى التى تبذل مثل تلك الفئات جهدا هائلا إما فى داخل كل منها، أو فيما تفرزه من أراء، ورؤى، وتقديرات، تستهدف من وراء كل منها التقليل من ذلك الإنجاز، أو التشويه لذلك الإعجاز. بيد أن ذلك كله لن يقدر فى النهاية أن ينال بأى قدر من أن الحمية هى وحدها القادرة على صبغ خطط اللعب، ومحاضرات التكتيك، وأدوار المراكز، وفرص التهديف، وأسماء المحترفين، بصبغة لا تستطيع قوى الفريق المنافس مهما قيل بشأنه قبل بدء المباراة، أو من خلال استقراء إنجازاته، أن تحد بأى قدر من تلك الشعلة القدسية الناجمة عن استحضار اللاعبين للوطن بأسره داخل المستطيل الأخضر ليستشعر كل لاعب فى تلك اللحظة بأنه قد أصبح مسئولا مسئولية عقائدية عن إسعاد الوطن بأسره، وإرضاء المواطنين جميعهم. وهو ما يفرض علينا الآن ودوما تعظيم تلك الحمية فى أبنائنا، وتأجيج وهج تلك الشعلة فى نفوسنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى