دين ودنيامقال

الدكروري يكتب عن الإمام السهروردي ” جزء 3″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الإمام السهروردي ” جزء 3″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

ونكمل الجزء الثالث مع الإمام السهروردي، والمعرفة الإنسانية في مفهوم الإشراقيين إلهام من العالم الأعلى، يصل بواسطة عقول الأفلاك، وهو ما يسمى بالكشف أو الإشراق، أي ظهور الأنوار العقلية بعد تجردها، وبهذه الفكرة، حاول السهروردي تفسير الوجود ونشأة الكون والإنسان، كما أنه حاول إبراز الفلسفة الزرادشتية القديمة من خلال فلسفته النورانية، والتعويل على فكرة النور وإشراق الأنوار لتبديد ظلمة الأجسام والمادة، ويرى السهروردي أن الإنسان يستطيع الوصول إلى الغاية القصوى التي ينشدها الصوفية عامة، وهي الوصول إلى ما اسماه عالم القدس، أي الحضرة الإلهية، عن طريق الرياضة الروحية ومجاهدة النفس، وأنه عند وصوله إلى هذا المقام الأخير السامي، يتلقى من نور الأنوار الله عز وجل، وقد ذكر السهروردي أنه وصل إلى هذه المرحلة عندما فارق جسده، واتصل بالملكوت الأعلى.

ولم يكن عصر السهروردي وهو ما بين القرن السادس الهجري، الموافق الثالث عشر الميلادي عصر تسامح فكري، بل كان عصر صراعات سياسية ومذهبية حادة، وكان حلقة من من حلقات الصراعات الممتدة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ونظر الفقهاء والحكام بعين الريبة إلى أفكار السهروردى وأحالوها إلى الدعاوى الباطنية، إلا أن السهروردي كان معتدا بذاته، واثقا من علمه، شجاعا وتحدى الفقهاء في سائر المذاهب، وعجزهم، وصار يكلمهم كلام من هو أعلى قدرا منهم، فتعصّبوا عليه، لا سيما أن طموحه كان بلا حدود، وكان الملك الظاهر قد أعجب بالسهروردي، بل أصبح السهروردي من أصدقائه، ونظرا لاشتداد الخلاف بين السهروردي والفقهاء، دعاهم الظاهر إلى مناظرة فكرية، وكان من جملة ما دار في المناظرة بين الفقهاء والسهروردي.

بأن قالت له الفقهاء أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبيا وهذا مستحيل؟ فقال السهروردي ما حدا لقدرته؟ أليس القادر إذا أراد شيئا لا يمتنع عليه؟ فقالت الفقهاء بلى، فقال السهروردي، فالله قادر على كل شيء، فقالت الفقهاء إلا على خلق نبي فإنه مستحيل، فقال السهروردي فهل يستحيل مطلقا أم لا؟ فقالت الفقهاء كفرت، ويبيّن من هذه المناظرة أن السهروردي فرّق بين النقل والعقل، بين الإمكان التاريخي والإمكان العقلي، فليست هناك استحالة مطلقة تعطل القدرة الإلهية، وليس ثمة اعتراض في الوقت نفسه على صحة النص الديني القاضي بأن النبي محمدا صلي الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، أما الفقهاء فقد تمسّكوا بحرفية النص الديني، وأحسب أنهم كانوا أعجز من التحليق في الآفاق الفكرية والفلسفية التي كان السهروردي ينطلق منها، وبما أن الجرأة كانت طبعا في السهروردي.

وكانت تتفاقم فتصل إلى حد التهور أحيانا، وقد أشار الشيخ سديد بن رقيقة إلى تلك الخصلة، فذكر إن شهاب الدين السهروردي كان يتردد إليه في أوقاته، وبينهما صداقة، وكان الشيخ فخر الدين يقول لنا ما أذكى هذا الشباب وأفصحه، ولم أجد أحدا مثله في زماني، إلا أنني أخشى عليه، لكثرة تهوّره واستهتاره وقلة تحفظه، أن يكون ذلك سببا لتلفه، وقال فخر الدين المارديني فلما فارقنا شهاب الدين السهروردي من الشرق، وتوجه إلى الشام، أتى إلى حلب، وناظر بها الفقهاء، ولم يجاره أحد، فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحسُن موقعه عند الملك الظاهر.

وقرّبه، وصار مكينا عنده، مختصا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك، وكذلك إن أطلق فإن يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك، وأفاد ابن أبي أصيبعة أن الشهاب بحث مع الفقهاء في سائر المذاهب وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلمهم كلام من هو أعلى قدرا منهم، فتعصّبوا عليه، وأفتوا في دمه، حتى تم قتله، وكان صلاح الدين أحوج الناس في ذلك الوقت إلى وحدة الصف في دولته المترامية الأطراف، والتي كانت تخوض مواجهة حامية ضد الفرنج غربا، وصراعا خفيا ضد الزنكيين في الموصل وأطرافها، وضد السلاجقة في الأناضول، بل أحيانا كانت ثمة خلافات تحت الرماد مع بطانة الخليفة العباسي نفسه في بغداد.

وكان الفقهاء والعلماء والمدرسون هم جيشه الضارب في تحقيق تماسك صفه الداخلي، فهم الذين يمسكون الجماهير من خناقها في كل عصر، ويوجّهونها الوجهة التي يريدونها، وأخذ صلاح الدين كل هذه المعطيات بعين الاعتبار، وأرسل إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا بخط القاضي الفاضل يقول فيه إن هذا الشاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أنه يُطلق، ولا يبقى بوجه من الوجوه، ورغم أن السهروردي بادر إلى إجابة دعوة الظاهر الأيوبي لمناظرة الفقهاء، ورغم أنه أسكتهم بقوة حجته وبراعة منطقه، إلا أن الأمر انتهى به إلى الحكم عليه بالموت، ويروى أن الظاهر الأيوبي خيّره في أمر موته، فاختار السهروردي أن يحبس دون طعام وشراب حتى يهلك، فكان له ما اختار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى