مقال

الدكروري يكتب عن الاعتكاف ” جزء 8″

جريدة الأضواء

الدكروري يكتب عن الاعتكاف ” جزء 8″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

ونكمل الجزء الثامن مع الاعتكاف، وإنه ليجدر بنا أن نجعل من هدي رسول الله صلي الله عليه وسلم لنا منهجا ونحن نستقبل العشر الأواخر، لنشد مئزر الجد، ونشمر عن ساعد الاجتهاد، ونجعل ليالينا حية بالذكر والقرآن، ونحث أهلنا وأبناءنا على اغتنام الخيرات والبركات، ومما يعين المرء على تحقيق ذلك هو التنظيم والتخطيط، فمن دونهما توشك الهمم أن تغور، والجهد أن يتبدد، فجميل أن ينظم المرء وقته وفق خطة جيدة، يهتم فيها بالمهمات، ويراعي الالتزامات، ويحدد فيها الأهداف، ويختار السبل والوسائل، ويعين أهله وأبناءه على أن يصنعوا مثل ما صنع، فيحمدوا جميعا بعد الشهر صنيعهم، ويفوزوا بمغفرة الله ورضوانه، وإن من أعظم ما يحث المسلم على الاجتهاد في هذه العشر معرفة أن الله تعالى قد أودعها ليلة عظيمة مباركة، سماها بليلة القدر، ليلة الشأن والقدر الرفيع، ليلة تقدر فيها الأمور.

 

ويكثر نزول الملائكة فيها بشآبيب الرحمات، ونفحات البركات، وهي الليلة التي جعلها الله ميقاتا زمنيا لنزول القرآن، فتنزل فيها غيث الوحي الذي أحيا أرض البشرية القاحلة، ونفث الروح في جسدها البالي، ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى، ليلة الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، ودلالته، وآثاره، فيقول رب العزة والجلال في كتابة العزيز ” إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم، أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين، رحمة من ربك إنه هو السميع العليم” وجاء في آيات سورة القدر قوله سبحانه وتعالي ” إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتي مطلع الفجر” إنها آيات تشع سناء، وتفيض أنوارا، نور إنزال الله لكتاب النور والهدى.

 

ونور الملائكة والروح وهم يتنزلون بين السماء والأرض، فما أعظمها من ليلة، وفي قول الحق سبحانه وتعالي ” وما أدراك ما ليلة القدر” إشارة إلى عظمتها ورفيع منزلتها، تلك العظمة التي تكاد تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري، عظمة لما فيها من الأنوار والبركات، وعظمة لما حوت من الخيرات والرحمات، وعظمة لاختيار الله لها منزلا للقرآن العظيم، ومما يزيد الليلة المباركة تعظيما وصـف الله لها بأنها ” خير من ألف شهر” والعدد هنا لا يفيد التحديد، وإنما يفيد التعظيم والتكثير، إنها ليلة خير من آلاف الشهور والأعوام في حياة البشر، فأكرم بها من ليلة مباركة، وتمر هذه الليلة العظيمة على المسلمين في هذا الشهر من كل عام، غير أن القلة من يشمر لنيل بركاتها، والخواص من يتسابقون في مضمارها، ولقد كان نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم أشد الناس حرصا على الفوز بنفحاتها الطيبة.

 

وخيراتها العظيمة، وهو صلي الله عليه وسلم القائل حاثا على اغتنامها “فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر” فقد أخفى الله تعالى تحديد وقتها ليجتهد الراغبون تقربا وعبادة، ويجد المخلصون طاعة وإنابة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في فضل هذه الليلة المباركة “من قام ليلة القدر إيمانا واحـتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” فمن قامها صلاة وعبادة، وقرآنا وذكرا حاز خيرا عظيما، ونال فضلا عميما، ولا يكفي المرء مجرد القيام الظاهري الشكلي، بل لا بد أن يكون قيامه إيمانا بالله وتصديقا لما أعده من الثواب العظيم، وإخلاصا لله سبحانه واحتسابا، والمرء الذي يقوم هذه الليلة بإيمان واحتساب سيستوحي المعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة، ويعيش روحانيتها، ويتذوق حلاوتها، ويدرك حقيقتها وعظيم أثرها ولن يعيش ويدرك ذلك الأثر إلا من قامها ذلك القيام.

 

فإن أثرها المتجدد عبر القرون هو أثر معنوي لا تدركه الماديات، وشعوري لا تحتويه النظريات، فمن قامها بنقاء قلب وخالص نية وجد منها أثرا وتأثيرا، ومن حرم فضلها وقيامها فقد حرم خيرا عظيما، وربما لا يدرك في نفسه حقيقة ذلك الحرمان لغفلته، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن حرم خير هذه الليلة المباركة “من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم” فشمروا عن سواعد الجد، واشحذوا الهمم، فنسمات العشر قد هبت، وليلة القدر للمخلصين قد أعدت، وربكم يرغبكم في المسارعة للخيرات، واغتنام الدقائق والساعات، لتزكو نفوسكم، وتطهر قلوبكم، وتسمو أرواحكم، وترتقي أخلاقكم، وتنالوا منه سبحانه مغفرة ورحمة، وثوابا وأجرا، فيقول عز وجل ” والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى