مقال

الدكروري يكتب عن الإمام الزركلي ” جزء 5″

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الإمام الزركلي ” جزء 5″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وانصرف إلى العمل الثقافي، فأنشأ المطبعة العربية وطبع فيها كتبه، ونشر كثيرا من كتب التراث، ولما ساءت صحته من العمل في المطبعة باعها واستجم ثلاث سنوات زار خلالها الحجاز مدعوا من الملك عبد العزيز بعد أن أمسك مقاليد الحكم فيها، ثم ذهب إلى القدس وأصدر مع زميلين له جريدة الحياة اليومية، ولما عطلت سلطات الاحتلال الصحيفة شارك في تحرير جريدة الدفاع، في يافا مع إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي، وسامي السراج، وفي بيروت أنجز الزركلي كتابه شبه الجزيرة، ومختصره الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، والطبعة الثالثة من كتاب الأعلام، أتبعها بالمستدرك الثاني، وكما تعرّف هناك علماء أفادوه في كتبه، منهم حمد الجاسر، وظافر القاسمي، وزهير الشاويش، وكان يتردد بين الفينة والفينة على دمشق، والسعودية، والقاهرة، ويزور سويسرة لمراجعة الطبيب شتوكي بشأن ضربات قلبه التي أصبحت أدنى من المستوى الطبيعي.

 

وفي إحدى ليالي أوائل عام ألف وتسعمائة وسبع وستين ميلادي، تم نقل الزركلي إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت إثر إغماءة وأصابته، وتم علاجه بتقوية حركة القلب بجهاز كهربائي، وبعد أن استرد عافيته سافر إلى دمشق ومكث فيها أياما قليلة، وفي أواخر سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين ميلادي، سافر إلى القاهرة حيث يقيم أبناؤه الدكتور غيث وأخواته الثلاث، وتم دخوله مستشفى المعادي، وتم نقله بعدها إلى مستشفى الشوربجي حيث توفي يوم الخميس الثالث من ذي الحجة، وتم الصلاة عليه يوم الجمعة في مسجد عمر مكرم، ودُفن بالقاهرة، وقد عرفت المجامع العربية للزركلي مكانته، فقد ضمه إلى أعضائه كل من المجمع العربي بدمشق ومجمع اللغة العربية بالقاهرة والمجمع العلمي العراقي وكان يحتفى به في كل بلد عربي ينزله، وقام الزركلي برحلات إلى إنجلترا، والولايات المتحدة الأمريكية، وتركيا، وإيطاليا، واليونان، وسويسرا، وتونس.

 

فتيسر له في أغلب هذه الرحلات الطواف على أهم خزائن الكتب فيها، وقد أتاحت له صفته الدبلوماسية في بعض تلك الرحلات زادا وافرا من المخطوطات والمطبوعات النادرة، جمعها في خزانة كتبه، ولم يكن بُعد الشقة قط مانعا له من السفر للحصول على كتاب أو مخطوطة، ويحدث هو بأنه كان مرة في إسطنبول يفتش عن كتاب خاص، فأخبر بأنه موجود في بلدة مغنيسة فركب السيارة إليها، وأمضى في الطريق إحدى عشرة ساعة، ولما وصلها وزار مكتبتها وجدها من أغنى المكتبات، لكنها بغير فهارس، وكانت تملأ اثني عشر درجا، فراح يستعرض الدرج الأول خلال صيف كامل، وعاد في الصيف التالي لاستعراض مخطوطات الدرج الثاني، وظل يعاود الزيارة إلى أن اطلع عليها جميعا، وكما أن الزركلي شاعر أصيل، التزم قواعد الشعر العربي، وصاغ موشحات على منوال الأندلسيين، وجمع إلى جزالة اللفظ ومتانة الأسلوب.

 

سهولة الوزن وبراعة الوضع، فجاء شعره غاية في الجودة والإبداع، أما نتاجه النثري، فهو وجه آخر لعملة إنتاجه الأدبي، فلا تكاد تفصل بين نثره وشعره، إن أتيته من ناحية القيمة الأدبية وجودة الصياغة، وللزركلي بيان آسر خلاب يتمثل ذلك في كتبه كلها، وحسب ما قيل في كتابه الأعلام من أن أسطرا معدودات يكتبها عن صاحبه الذي يترجم له، تأتي مُلمّة بحياته، محيطة بها، جامعة لأحداثها، مضيئة لجوانبها، من خلال فكر نيّر ناضر، وأسلوب قوي سمح، وعرض منطقي متماسك، وعبارة هي إلى روح الشعر أقرب، وقيل أن الزركلي هو شاعر الوطن، وما عرفت الشام شاعرا أبر بوطنه منه، وشعره البلسم الشافي لآلام الصابرين وجراحات المجاهدين، فما ناب سوريا خطب ولا ألمّت بأهلها ملمّة، إلا مسح بشعره مواجع المنكوبين ومدامع المعذبين، وكما هو لم يقصر عمله وشعره على الجهاد في سبيل حرية بلاده سوريا وحدها.

 

وإنما امتدت آفاق جهاده فوق كل أرض للعرب حلّ فيها، فهو في أي بلد استوثق من روح الوطنية في رجالها مال إليه، ولقد حمل الزركلي في نفسه همّ العرب، فجاء شعره استنهاضا لهممهم وشحذا لعزائمهم ودفعا بهم إلى الثورة والتحرر، ولقد كان شعره ثورة أو كاد، فلقد أزعجت قصائده الوطنية سلطات الانتداب الفرنسي، وأقضت مضجعها، فأصدرت حكمها عليه غيابيا بالإعدام مرتين، فلم يرهبه الحكم، ولم تفزعه توابعه من مصادرة أملاكه، ويبقى للزركلي عنصر الصدق في شعره، فقد تحدث عن حاله وحال الناس فأنصفهم، وصدق في وصفه لهم، رق للفقراء ونفحهم من نفسه، ويبقى له صدقه في حماسته الوطنية وإحساسه بقومه، لقد كان شاعرا ينبض شعره بقومه، يذود عنهم ويفخر بهم، وديوانه مملوء بشواهد على ذلك كثيرة، وهكذا ولد الزركلي في دمشق وتعلم بها، وتنقل في عدة بلدان عربية، وانتهى به المطاف في العمل بالسلك الدبلوماسي للمملكة العربية السعودية.

 

وألف كتبا كثيرة، أشهرها كتاب الأعلام، وهو قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، ويندر أن تجد باحثا في الثقافة العربية لم يرجع إلى كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي، ليرشده إلى ترجمة علم من القديم أو الحديث، ويأخذ بيده إلى المظان التي يمكن أن يعود إليها إن أراد المزيد من التفاصيل عن الشخصية التي يبحث عنها، ولم يأخذ هذا الكتاب مكانته بين الباحثين وأهل العلم إلا عن جدارة واستحقاق فهو يجمع بين الدقة في تحرير الترجمة، والعناية بإبراز أهم ملامح المترجم له، مع الأمانة والموضوعية والإيجاز غير المخل، وقد أنفق الزركلي السنوات الطوال في تأليف كتابه، وإعادة تحريره أكثر من مرة، مستعينا بعمله الدبلوماسي الذي هيأ له السفر والانتقال بما ساعده في أن يطالع المكتبات العامة في كثير من دول العالم، حتى خرج على الصورة التي نراها الآن وهو ثماني مجلدات كبيرة.

 

ومن عجب الأقدار أن المؤلف لم يعش حتى يرى الطبعة الأخيرة الأنيقة من كتابه التي صدرت بعد وفاته، وأكسب هذا الكتاب مؤلفه شهرة واسعة، وبوأ صاحبه منزلة كبيرة بين مؤرخي هذا الفن من أصحاب كتب التراجم، وأخفى أيضا جانبا من مواهب الزركلي فلا يعلم كثيرون أنه كان شاعرا مجيدا، له ديوان من الشعر العذب، وفي الثالث من شهر ذي الحجة لعام ألف وثلاثمائة وست وتسعين من الهجرة، الموافق الخامس والعشرين من شهر نوفمبر من عام ألف وتسعمائة وست وسبعين ميلادي كانت، وفاة العالم الكبير خير الدين الزركلي، وبذلك طويت صفحة أبي غيث العلم الذي خلد الأعلام، أدخله الله في واسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى