مقال

الدكروري يكتب عن تأثيرات العصر العباسي ” جزء 1″

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن تأثيرات العصر العباسي ” جزء 1″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

إن من أبرز تأثيرات العصر العباسي هو ظهور وتطور المذاهب والمدارس الفقهية، التي حصرت بأربع مدارس كبرى هي الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية، وكانت هذه المدارس شكلا من أشكال التنوّع في تفسير العقيدة، وغالبا ما كان الخلفاء يحيطون أنفسهم بقضاة من المذاهب الأربعة، كذلك الحال في الجامعات الكبرى المعنية بالشريعة كالجامعة المستنصرية، وكما تميّز العهد العباسي أيضا بالاهتمام بجمع الحديث وغربلته، بقصد التحقق من مدى دقته وصلته بالنبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم، وإن أشهر جامعي الحديث قد برزوا خلال العصر العباسي كالبخاري ومسلم والترمذي وأحمد وغيرهم، ممن لا يزال فقهاء الإسلام يعتمدون عليهم إلى اليوم، ما يدل على التأثير العميق للعصر العباسي في العلوم الشرعية والفقهية، وقد نشأت عدة مدراس تختص بعلوم الحديث ومن أشهر هذه المدارس هي مدرسة المدينة المنورة، ومدرسة أهل الرأي في العراق.

 

وظهر علم قراءات القرآن في العصر العباسي، منعا لاختلاف القراءات بحكم تعدد اللهجات، واختير في سبيل ذلك سبعة قرّاء اشتهروا بعلمهم وفضلهم، بل إن العباسيين، حتى في الأزمنة التي كفوا فيها عن رعاية العلوم والفنون، لم يكفوا قط عن رعاية المدارس الفقهية وتمويلها، وانطلاقا من ذلك فإن الغزو المغولي الذي دمر المدن الكبرى، وأتلف محتويات المساجد والمكتبات، في بغداد وحلب ودمشق، ترك المسلمين في حال تصفها المستشرقة كارين آرمسترونغ باليتم، ففقهاء العصر المملوكي لم يكونوا مهتمين بتطوير الفتاوى والاجتهادات الفقهية، بقدر ما كانوا مهتمين بإعادة تجميع ما قد ضاع وفقد منها، وعلى مستوى الطائفة الشيعية فإن العصر العباسي يعتبر حاسما في تكوين معالم هذه الطائفة، كما تبدو اليوم إذ إن الدعوة العباسية، وإن قامت على تقارب مع الشيعة، سرعان ما انقلبت عليهم، ورغم أن العباسيين قد حفظوا الإمامة الشيعية قائمة.

 

كما تم الاتفاق بين الحسن بن علي ومعاوية بن أبي سفيان، تم اغتيال بعض أئمة الشيعة، وتسميم آخرين من قبل الخلفاء، وعلى الرغم من أن الإمام السادس جعفر الصادق قد حرّم على الشيعة التدخل في شؤون الدولة، ظلت العلاقة متوترة، إضافة إلى أن الإمام الثاني عشر محمد المهدي قد اختفى خلال خلافة المعتمد على الله بظروف غامضة، ويعتقد الشيعة، حتى اليوم، أن الإمام في حالة غيبة، بسبب استشراء الظلم والفساد في المجتمع، وأنه سيعود قبل موعد يوم القيامة، ليقيم الحكم الإسلامي العادل، في الحقيقة إن عقيدة غيبة الإمام التي ظهرت في العصر العباسي، ستشكل إحدى الركائز الأساسية للطائفة الشيعية ومعتقداتها، وكما أن الجدالات الدينية الإسلامية الفلسفية كانت إحدى سمات العصر العباسي، خصوصا في عهود القوة وأبرز هذه الجدالات الدينية الجدل الذي حصل حول أزلية القرآن أو خلقه إذ قالت المعتزلة والإباضية بخلق القرآن، ودعمهم الخليفة المأمون.

 

في حين قالت الأشاعرة والسنة بأزلية القرآن، ومازال الجدل دائرا لم يحسم بعد إذ إن بعض الفرق لا تزال تقول بخلق القرآن، استنادا إلى عدد من آيات القرآن ذاته منها ” قل لله خالق كل شيء” في حين أن أغلب المسلمين يرفضون ذلك، استنادا إلى كون القرآن، بوصفه كلام الله، جزءا لا يتجزأ عنه، وإن جعل القرآن مخلوقا يؤثر على حال الألوهية غير القابلة للتبديل ولطالما قارن المؤرخون وعلماء الدين المقارن بين هذا الجدال والجدال المسيحي في القرن الرابع حول خلق المسيح أو أزليته، وقد عقد مجمع نيقية، عام ثلاثمائة وخمس وعشرين ميلادي، للفصل فيه، وانتهى للقول بأزلية المسيح تماما كالقول بأزلية القرآن، بوصف كليهما في دينهما كلمة الله، الجدال الثاني كان منبعه تضارب التفسير لآية ” الرحمن علي العرش استوي” حيث ذهب البعض للقول بالتفسير الرمزي للآية، وتمسك البعض الآخر بوجود عرش الله، وأغلب المسلمين، من سنة وشيعة.

 

اليوم يقرون بالتفسير الرمزي أو التأويل لهذه الآية، دونما تفسيرها حرفيا، وهناك قضايا أخرى كانت محط جدال في العصر العباسي كالجدال حول رؤية الله في يوم القيامة أو نفيه، والجدل المتعلق حول جنس الملائكة، والجدل المتعلق بالجبر والاختيار، وغير ذلك من القضايا، ومع كون الإسلام هو دين الدولة، لا يمكن تحديد مذهب من مذاهبه أو طوائفه دينا رسميا فخلال خمسة قرون من عمر الخلافة في بغداد، كان دين الدولة يتأثر بطائفة الخليفة، فالمأمون والمعتصم والواثق أعلنوا الاعتزال عقيدة الدولة، وقام المتوكل بتعيين الشافعية مذهبا رسميا، أما المستعصم بالله فكان يميل نحو الشيعة، وكذلك الخلفاء الذين تعاقبوا خلال الدولة البويهية، على عكس الخلفاء الذين تعاقبوا خلال الدولة السلجوقية ومالوا نحو السنة، وخلال عصر القوة والازدهار العباسي، كانت العلاقة بين الدولة ومواطنيها غير المسلمين تصنف على أنها في أحسن الأوضاع، خصوصا خلال خلافتي المنصور والرشيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى