مقال

الدكروري يكتب عن الإمام فخر الدين الرازي ” جزء 5″

جريدة الاضواء

الدكروري يكتب عن الإمام فخر الدين الرازي ” جزء 5″

بقلم / محمـــد الدكـــروري

 

وكان تخرجه أول الأمر بعلوم الحكمة اليونانية أي الفلسفة اليونانية ثم ضم إليها علوم الكلام والأصول والفقه على مذهب الشافعي، وعلوم العربية، فأصبح علما مفردا في الجمع والمزج بين الفنون، وسهولة، هضم بعضها بعضا، وبذلك علت سمعته وعظم صيته وتمكن من سلوك طريقة في التأليف والبحث والعرض وانفرد بها، وأفاد منها كل فن من خصائص الفن الآخر، فأصبحت طريقته المنهج الثقافي التعليمي الذي عم أقطار الإسلام، وسرى في لغات الثقافة الإسلامية كلها، على توالي العصور ومن هنالك أصبح معروفا بلقب الإمام إذا أطلق عند المتكلمين والأصوليين انصرف إليه، وعلى تلك الطريقة البديعة صدرت كتبه الكثيرة الجليلة المفننة في التفسير والكلام والأصول والفقه والنحو والأدب والفلسفة والطب والهندسة والفلك، فكان بدروسه ومواعظه ومناظراته وكتبه مظهرا لرقي الثقافة الإسلامية ومتانة أسسها.

 

وحجة قاطعة على انتصار المبادئ الإسلامية في كل ناحية من نواحي المعرفة، اعتز الناس في حياته شرقا وغربا بعجيب عبقريته وشدت إليه الرحال، وتفنن في مديحه الشعراء واختص من بينهم بذلك شاعر الشام والرحالة شرف الدين بن عنين، وقد كان من تلاميذه بمدرسة خوارزم، وقد جعل الإمام الرازي غايته من تلك المنزلة العلمية العليا، المتساوية الدرجات بين موارد الثقافة والمعرفة أن يضع القرآن العظيم موضع الدراسة والبحث والتحليل على منهج يرى تفوق الحكمة القرآنية على سائر الطرائق الفلسفية، وانفرادها بهداية العقول البشرية إلى غايات الحكمة، من طريق العصمة، ولقد كتب في وصيته التي أملاها عند احتضاره لقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات.

 

وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك الحقائق العميقة، والمناهج الخفية، وعلى هذا الأساس من إبراز حكمة القرآن والبرهان على سموها وأمن مسلكها أقام فخر الدين الرازي تفسيره الكبير، كانت الطريقة المثلى في نظره، لإدراك ما في القرآن من أسرار حكيمة، وبث ما تضمنه من مطالب فلسفية وعلوم طبيعية، وإنما هي طريقته الكلامية المختارة المتبعة لمنهج الغزالي، وإمام الحرمين والباقلاني وأبي اسحق الإسفراييني، والإمام أبي الحسن الأشعري، فلذلك كان يرى أن الطريقة الأخرى، وهي طريقة المعتزلة هي التي عطلت القرآن عن أن يفيض على الناس غيوثه الحكيمة وأن المعتزلة لما آمنوا بالحكمة اليونانية حجبوا عن الوصول إلى أسرار القرآن، فأصبح مبلغهم من التفسير، تحقيق أعاريبه، وتحليل تراكيبه، وبيان ما اشتمل عليه من بديع النكت، وبليغ الأساليب، على نحو أبرز عليه الزمخشري تفسيره الكشاف.

 

وقبله أبو اسحاق الزجاج ثم الشريف المرتضي، فاستقر حكمه أخيرا على أنه ما دام المعتزلة مستحوزين على طريقة التفسير النظري، وما دام أسلوبهم مسيطرا عليه، فإن القرآن لا يزال محجوبا عن أفكار أهل المدارك الحكيمة، تحول بينهم وبين لبه بحوث في القشور النحوية، وتقارير للقوالب البلاغية، هنالك ناشد نفسه وناشد الناس، أن يغوصوا على منابع القرآن ليفجروا منها سيولا فياضة يستطيعون أن يغترفوا منها حكمة صافية هي روح الهداية التي جاء القرآن ينير بها العقول، ويشرح لها الصدور، ولبيان أن شغل الناس بقضايا إعرابية أو بلاغية أو كلامية حجب الناس فعلا عن حسن تدبر القرآن والاستنباط من كنوزه، أقدم على تصنيف كتاب في تفسير الفاتحة، وأخذ مثلا لاثبات ما قال من قوله تعالى “رب العالمين” فبين أن العالم الذي ضبطت أحواله المعارف الإنسانية ليس هو كل الوجود، لأن الخلاء الذي لا نهاية له خارج هذا العالم.

 

 

صالح لأن يشتمل على الآلاف من العوالم الأخرى وأن يحصل في كل واحد من تلك العوالم، مثل ما حصل في عالمنا هذا وأعظم وأجسم من ذلك وإن الإنسان لو ترك تلك العوالم واقتصر على أن يحيط علمه من هذا العالم فقط، بعجائب المعادن، واقتصر على أن عجائب أحوال النبات، وعجائب أقسام الحيوانات لنفذ عمره في أقل القليل من هذه المطالب، فلا ينتهي إلى غورها، مع أن ذلك كله بعض قليل مما يندرج تحت قوله “رب العالمين” وانتهى من هذه البراهين التمهيدية إلى أن سورة الفاتحة مشتملة على مباحث لا نهاية لها، وأن القول بأن تلك المباحث عشرة آلاف، ليس إلا من قبيل التقريب لأفهام السامعين، لأنها فوق ذلك بكثير وبعد تأصيل تلك القواعد المبدئية، تناول سورة الفاتحة، مبتدئا بتفسير الاستعاذة والبسملة ومتتبعا السورة بالتحليل وتقليب الأوجه، وبيان معاقد المعاني وطرق استنباطها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى