مقال

الشعبوية ليست أهم أمراض السياسة

الشعبوية ليست أهم أمراض السياسة

الشعبوية ليست أهم أمراض السياسة

كتب / يوسف المقوسي

 

أعترف مع كثيرين أن السنوات الأخيرة كانت صعبة ولم ينج من التعرض لآثار صعوباتها إلا القليلين من السياسيين وأصحاب القرار. وحدها كانت جائحة الكورونا سببا كافيا لإنهاك أفراد النخب السياسية الحاكمة وغير الحاكمة على حد سواء. لكنها لم تأت منفردة. جاءت وفي ركابها، أو سبقتها، تعقيدات أزمة اقتصادية غير منفصلة تماما عن الأزمة المالية المستحكمة والخانقة التي ضربت الدول وأسواقها في نهاية العقد الأول من القرن الجديد. اجتمعتا، أزمة الكورونا وأزمة الاقتصاد، مع موجات متدفقة ومتلاحقة من ردود الفعل للعولمة، ردود أمريكية بخاصة ولكن أيضا دولية، أغلب الردود أخذت شكل سياسات وقرارات حمائية ودفعت إلى سطح الأحداث بتيارات وتوجهات قومية أو دينية أو عنصرية أو جميعها في آن ومتطرفة أيضا.

هذه الأحداث والتيارات والأزمات وظروف أخرى موجودة وفاعلة مع استعداد نفسي بالضرورة جسدت لهذه المرحلة في التاريخ الحديث شخصيات سياسية لا أقول فريدة ولكن لكل منها طابع خاص واهتمام مختلف. تسببت في الوقت نفسه في تفشي أنواع شتى من أمراض السياسة. منها أمراض عهدناها تأتي لمرحلة وترحل ومنها أمراض مقيمة لا ترحل وأمراض تنتقل بين الدول بالعدوى وأمراض يتوارثها الأبناء. منها أمراض تصيب السياسيين ضعاف النفوس والشخصية، وعلى العكس يمكن أن تصيب أيضا سياسيين مصابين بداء العظمة. تصيب أيضا وبكثرة السياسيين من ذوي النزعة أو الخلفية الدينية. كثيرون من قادة الدول، في أفريقيا خاصة يعتقدون أن كرسي الزعامة، وكان في الأصل جذع الشجرة المخصص تاريخيا لشيخ القبيلة، هو حق لهم بالوراثة حتى البعيدة.

الشعبوية ليست أهم أمراض السياسة في العصر الذي نعيش. هي بلا شك واحدة من الأهم. يشاركها في الأهمية مرض العنصرية، والعنصرية في حد ذاتها عنوان تصطف تحته عناوين أمراض أخرى كثيرة منها على سبيل المثال ممارسات التعالي أو عكسها على الإطلاق مثل ممارسات الدونية. أقرب هذه الممارسات الدونية ما عاصره بعض المعمرين من بيننا عن أساليب التعامل السياسي بين السياسيين في الدول شبه المستقلة وممثلي الدول الغربية المهيمنة من ناحية وبين بعض السياسيين في الدول الفقيرة والسياسيين في الدول النفطية أو الميسورة ماديا من ناحية أخرى. ينعكس هذا النوع من الدونية على العلاقة الحقيقية والمتوترة غالبا التي تنشأ بين فقراء العشوائيات مثلا ورؤساء وموظفي المجالس المحلية في دول عديدة في الشمال كما في الجنوب.

 

من الأمراض الشائعة في أيامنا وكانت شائعة في الماضي للأسباب نفسها أو لأسباب مختلفة شن السياسيين لحملات الغزو المسلح ضد دولة أخرى جارة أو بعيدة وجعل من البيت الأبيض مصدرا لتجارب ينفذها جماعة المحافظين الجدد وغلاة الصهاينة ضد دول صغيرة. تدخلت أمريكا في عهد الرئيس بوش الصغير في شئون العراق بالغزو المسلح بادعاء ثبت زيفه ومن رئيس أثبت قولا وفعلا ضعف قواه العقلية. أمريكا ربما صارت الدولة الأكثر استخداما للحرب في علاقاتها الدولية. كان الغزو نمطا مألوفا في عصر الاستعمار الغربي والسوفييتي وكان الظن أننا بنهاية الحرب العالمية الثانية انتقلنا إلى علاقات دولية لا تلجأ فيها الدول إلى أسلوب الغزو. لم ندرك، ولعلنا ما زلنا، لا ندرك أن النظام الدولي الذي رسمت خريطته ووضعت قواعده الولايات المتحدة بهدف المحافظة على السلم الدولي كان هو نفسه بقواعده المبرر الذي استخدمته أمريكا لغزو كوريا وفيتنام والعراق وسوريا وسمحت للناتو بغزو ليبيا وتسمح لإسرائيل باحتلال أراضي ورفض مبادئ السلام والأمم المتحدة.

 

من الأخطاء التي أصبحت شائعة تشكيل السياسيين في بعض الدول لميلشيات عسكرية وقوات غير نظامية لحمايتهم وإنشاء أجهزة إعلامية فائقة التمويل هدفها تضخيم صورة وأعمال السياسيين في دول العالم النامي إلي الحد الذي يدفع المعارضين المحرومين من حرية التنظيم والرأي لتصعيد وتنويع نشطهم في مسالك غير قانونية أو تحت الأرض. من الأخطاء الشائعة أيضا انغماس الحكام في مسألة الديون. المعروف أن أكثر من 90 دولة من الأفقر في العالم تنفق ما متوسطه 16% من دخولها على خدمة الديون. نيجيريا مثلا تنفق 96% من حصيلة الضرائب على خدمة الدين وعلى حساب التعليم والصحة. هذا الخطأ ظل قائما منذ عصر الاستعمار عندما كان المستعمر يستدرج الملوك والسياسيين إلى فخ الديون ليسهل التحكم في سياساتهم .

 

من أخطاء بعض السياسيين المعاصرين المتكررة استسلامهم للغرور رغم أن تاريخ أسلافهم حذرهم من العواقب الوخيمة لهذا الاستسلام. نهاية نابليون نموذجا ونهاية صدام نموذجا أبشع. أذكر في هذا الصدد رواية الأستاذ هيكل عن استقبال السوريين واللبنانيين لعبد الناصر في زيارته الأولى لدمشق كرئيس للجمهورية العربيبة المتحدة. بلغت حرارة اللقاء ذروتها، الذروة التي هزت أفئدة عبد الناصر ومرافقيه الواقفين على شرفة قصر الضيافة من سوريين ومصريين ودفعت هيكل لأن يهمس للرئيس بأن يحتاط ضد الغرور قائلا له “يا ريس.. ماتنساس انك بشر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى